الخوري نسيم قسطون:
في أحد البشارة، نتوقّف عند اللّحظة الفريدة التي التقى فيها الزمني بالأزلي، ليس كحدثٍ مضى، بل كنداء حيّ يتردّد في مسامع القلب المؤمن.
يدخل الملاك على مريم حاملاً تحية “السلام”، فلا يكون مجرد تحية عابرة، بل هو هبة سماوية ووعد بسلامٍ يملأ القلب الذي ينفتح على الله. هذا السلام الذي ننشده ليس غياباً للمتاعب، بل هو اطمئنانٌ عميق ينبع من اليقين بأن الله حاضرٌ في حياتنا، حتّى في ظلام الظروف. وهنا يطرح السؤال نفسه: ألسنا، كمسيحيين، حاملين لهذا السلام إلى عالمنا؟ أم نترك مجالسنا تتحوّل إلى ساحات للنميمة وإدانة الآخرين، فتفقد رسالتنا جوهرها؟
“يا مملوءة نعمة”، هي اعتراف بفيض النعمة الإلهية الذي حلّ عليها. لكن النظرة العميقة تكشف أن كلّ واحد منّا هو أيضاً غنيّ بنعم لا تُعدّ. فالحياة ذاتها نعمة، والمحبّة والعائلة والعمل والصحة، كلّها عطايا مجانية من لدن الله. لكنّنا، يا للأسف، نغرق في همومنا حتّى لا نعرف فضل ما نحن فيه، فنعيش حالة من النقص الوهمي، بينما كنوز النعمة تحيط بنا من كلّ جانب. أن نكون “مملوئين نعمة” يعني أن نعيش بقلب شاكر، نرى من خلاله يد الله في تفاصيل حياتنا، كبيرها وصغيرها.
“الرب معك”، هي الكلمة التي تهزّ كيان مريم، وهي الكلمة ذاتها التي توجّه إلى كلّ منّا. فالله لا يبعد عنّا لحظة، هو معنا في صلواتنا، في كلمته المقدّسة، في الأسرار، وفي جسد الكنيسة الذي يجمعنا. إنّه الحضور الذي يمنح القوة في الضعف، والأمل في اليأس. لكنّ هذا الحضور يتطلّب منّا إيماناً نقرّ به في الظلام كما في النور، وثقةً بأنّه لا يتركنا، حتّى عندما تخفي علينا التجارب علامات حبّه.
استجابة مريم، “ها أنا أمة الرب، فليكن لي كقولك”، هي لحظة التحوّل الكبرى في التاريخ. ليست مجرد قبول سلبي، بل هي تسليمٌ نشط بالذات، تصبح فيه الإرادة البشريّة شريكة في تحقيق المشيئة الإلهية. هنا تكمن حرية الإنسان الحقيقية: أن يختار بحرية أن يتبع الله. هذا التسليم هو الدعوة التي تواجهنا كلّ يوم، في القرارات البسيطة والمصيرية. هل نثق بالله كفايةً لنسلّمه مقود حياتنا، آمِلين أن خططه لنا هي الأحسن، حتّى لو بدت غير مفهومة في لحظتها؟
البشارة، في جوهرها، هي دعوة لنا لنكون حاملين للكلمة في عالمنا، كما حملت مريم المسيح في أحشائها. أن نحمل المسيح يعني أن تجسّد محبّته وفرحه وسلامه في علاقاتنا وأعمالنا. أن نكون بشارة حيّة لمن حولنا. هذا يتطلّب منا آذاناً صاغية لصوت الله، ليس فقط في الكنيسة، بل في صمت القلب، وفي حاجات الفقراء، وفي أحداث الحياة اليومية. فالله لا يتوقّف عن الكلام، ولكن هل قلوبنا مشغولةٌ بما يكفي لتسمعه؟
في النهاية، يبقى حدث البشارة مرآة نرى فيها صورتنا الحقيقية: بشراً مدعوّين إلى شركة مع الله، لنكون شركاء في خلاص العالم. إنّه يذكرنا بأنّ البركات الحقيقية لا تُقاس بالغنى المادي أو النجاح الدنيوي، بل بالأمانة لدعوتنا المسيحية. فليكن هذا الأحد مناسبةً نتجدّد فيها في عهد المعمودية، قائلين من أعماق قلوبنا، كما قالت مريم: “ها أنا إبنكَ، فليكن لي بحسب قولك”.
