الخوري نسيم قسطون:
النصّ الإنجيلي الذي يروي لنا بشارة زكريّا (لوقا 1: 1-25)، يفتح أمامنا نافذة على أمانة الله لعهد المحبة والخلاص الذي قطعه مع البشرية.
يعرض لنا هذا المشهد العميق سردًا يمزج بين انتظار الإنسان وأمانة الله، بين حدود الطبيعة البشرية وتدخل الله الفائق. في قلب هذه القصة، نجد زكريّا وأليصابات، الزوجين العجوزين اللذين قضيا عمرهما في رجاء غير مرئي، كحلم دفين لا يعترف بانتهاء العمر أو الجسد.
ما أبهى أن نرى كيف أن الله، في لحظة لا ينتظرها أحد، يختار أن يتدخّل ليعطي لحياة زكريّا وأليصابات معنىً جديداً. لم يكن يوحنا الولد المنتظر جائزة ترضية، بل علامةً على رحمة الله العظيمة. هذا الوعد المتحقق يذكرنا بمعنى اسمه: “الله تحنّن”، ويشجعنا على التأمل في مدى وفاء الله لوعوده، حتى وإن بدا أن الأمل قد تلاشى أو أن الحياة قد طغت على الرجاء.
من المؤكّد أنّ الله لا يعمل وفق مقاييس البشر؛ فالتوقيت الإلهي يسير على إيقاع أعمق من الساعات والأيام، ويتحرّك بحكمة تفوق إدراكنا. زكريّا، الكاهن الذي أمضى حياته يخدم الله بانتظام وصمت، اختير في لحظة محددة لتتغير حياته. حدث هذا في يوم كان يمكن أن يمرّ عادياً، ولكنه أصبح يوماً من أيام الله الخاصة، إذ كلّمه الملاك ليحمل إليه البشرى بولدٍ يسبق المسيح. تلك اللحظة كانت شهادة على أن انتظارنا ليس هدراً، بل هو وقت يهيئنا لظهور الله في حياتنا بطرق غير متوقعة.
الولادة المستحيلة ليوحنا لا تسلط الضوء فقط على قدرة الله في تحويل المستحيل إلى ممكن، بل تدعونا أيضاً إلى النظر في معنى الرسالة التي يحملها كل واحد منا. يوحنا جاء لينادي بالتوبة ويهيئ الطريق للرب، في إشارة واضحة إلى أن كل إنسان يولد ومعه رسالة مرتبطة بحضور الله الخلاصي في العالم. السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل ندرك ما هي الرسالة التي وُلدنا من أجلها؟ وهل نحن مستعدون لتحقيقها رغم كل الصعوبات؟
تأمّلنا اليوم يوجّه أنظارنا أيضاً نحو مفهوم العهد. الله لم ينسَ زكريّا، كما لم ينسَ وعوده بالرحمة التي قطعها في تاريخ الخلاص. هذا الوعود تتجلى في حياتنا بطرق شتى، لكنّ إدراكها يتطلب الإيمان والصبر. ليس مصادفةً أن اسم زكريّا يعني “الله تذكر”، واسم أليصابات يعني “الله أقسم”، ليذكّرانا دوماً أن الله لا ينسى محبته لنا ولا يتراجع عن وعده.
رسالة الرجاء تبرز بقوّة في إنجيل اليوم، لتعلّمنا أنّه، حتى عندما تتلاشى قدراتنا أو يقسو علينا الزمن، يبقى الله قادراً على أن يخلق من أرحام المستحيل حياة جديدة. قصتهما تدعونا إلى التخلي عن اليأس، مهما كانت الظلمات تحيط بنا، والتمسك بالإيمان بأن الله الذي يرحم هو نفسه الذي يجدد.
في الختام، تأملنا فيما جرى مع زكريّا وأليصابات هو دعوة للثبات في حياتنا الروحية، في أمانتنا لله وفي رجائنا الدائم. الله يرى قلوبنا ويعرف أمانينا الأعمق، وهو قادر على تحويل ضعفنا إلى قوة وقلقنا إلى سلام. فلنحفظ عهده، ولنثق بأن إرادته ستتحقق في حياتنا بطرق لا تخطر على بال، حاملةً لنا معنى ومهمة تفوق كل تصوّر.
Share via: