الخوري نسيم قسطون:
في الأحد الأخير من زمن الصوم، نتأمّل في رواية شفاء يلامس أعماق الروح: شفاء رجل بلا اسم، يُعرف فقط بمرضه، لكنه يحمل في داخله هوية خفية. “ابن طيما” (مرقس 10: 46-52)، كما يُدعى، ليس مجرد أعمى بين العميان، بل إنسانٌ يحمل في صمته رسالةً لمن يريد أن يبصر. ففي عالمٍ يختزل الناس إلى ألقاب وظروف، يذكّرنا هذا الأعمى بأن هويتنا الحقيقية ليست فيما نُسمى به، بل فيما نؤمن به. نحن، مثله، قد نحمل أسماءً كثيرة، لكننا ننسى أحيانًا أننا خُلقنا لاسمٍ واحد: مسيحيون. فهل نعيش هذه الهوية، أم نُخفيها خلف قشور الحياة اليومية؟
في أريحا، حيث كان الأعمى يجلس على قارعة الطريق، لم يكن مجرد شحاذٍ يطلب قطعة خبز. لقد حوّل إعاقته إلى وسيلة للقاء الله. فبينما كان الناس يمرون به غير عابئين، استطاع هو أن يسمع صوت الرحمة بين الضجيج. لم يشأ أن يكون عالةً على أحد، لكنه عرف أن يشحذ ما هو أثمن من المال: رحمة الله. وفي صرخته، نتعلم أن الحاجة الحقيقية ليست فيما نفتقده من أمور مادية، بل فيما نفتقده من نورٍ يهدينا إلى الحقيقة.
الأعمى في هذا الشفاء لم يرَ بعينيه، لكنه رأى ما لم يره المبصرون. بينما وقف الآخرون أمام يسوع ينظرون إليه كمعلم أو نبي، نظر إليه هذا الرجل على حقيقته: “يا ابن داود”. لم يكن ينادي مجرد رجل، بل كان ينادي المسيح المنتظر، المخلص الذي طال انتظاره. صرخ طالبًا الرحمة، وكأنه يعرف أن ما يحتاجه ليس مجرد شفاء الجسد، بل لمسة من النعمة الإلهية. في هذا الصوت الخافت، نسمع صدى إيمانٍ نقيٍّ يتجاوز كل التوقعات. فمن كان أعمى هنا؟ أهو الذي لم يرَ النور، أم أولئك الذين رأوا كل شيء ولم يعرفوا شيئًا؟
عندما سأل يسوع الأعمى: “ماذا تريد؟”، لم يكن السؤال اختبارًا لمعرفته، بل دعوةً ليعبّر عن أعمق رغبات قلبه. لم يقل الأعمى: “أريد أن أرى”، بل قال: “أن أبصر”. الفرق بين الكلمتين هو الفرق بين النظرة السطحية والبصيرة الروحية. لقد أراد أن يرى ما وراء المظاهر، أن يعرف الحقيقة التي تجعله حرًا. وفي زمننا هذا، حيث تكثر الضوضاء وتقلّ الرؤية، يبقى السؤال نفسه يتردد: ماذا نريد حقًا؟ هل نطلب ما يملأ بطوننا ويُرضي غرورنا، أم نطلب ما يملأ أرواحنا ويُعيد إلينا البصر؟
اليوم، يدعونا هذا الشفاء إلى إعادة النظر في أنفسنا. فكثيرون منا، رغم عيونهم المفتوحة، يعيشون في عمى روحي. نحن نرى العالم، لكننا لا نرى الله فيه. نسمع الأصوات، لكننا لا نسمع نداءه. الأعمى في الإنجيل لم ينتظر حتى يأتي إليه يسوع، بل صرخ بكل ما أوتي من قوة، غير آبهٍ بمحاولات إسكاته. وهنا يكمن الدرس: الإيمان ليس انتظارًا، بل هو صرخةٌ تثق بأن الصمت لن يكون النهاية.
في نهاية المطاف، لا يهم إن كنا نرى بأعيننا أم لا، بل يهم أن نبصر بقلوبنا. فالأعمى الذي استعاد بصره لم يعد ذلك الشحاذ المجهول، بل أصبح تلميذًا يسير في نور المسيح. أما نحن، فما زلنا في الطريق، نتعثر أحيانًا في ظلامنا، لكن النور موجودٌ لمن يطلبه. فهل نصرخ مثل ابن طيما: “أرحمنا!”، أم نظل صامتين، خائفين من أن نُسمع صوتنا؟
في هذا الزمن المقدس، لنجعل من صلاتنا طلبًا واحدًا: أن نُبصر. ليس فقط لنرى العالم من حولنا، بل لنرى الله في وسطنا. ولنكن كالأعمى الذي لم يعد أعمى، بل صار شاهدًا للنور الذي لا يخبو.
