الخوري نسيم قسطون:
يأتي ميلاد يوحنّا في سياق إلهيّ يتخطّى التوقعات البشريّة. فبعد عمرٍ من الانتظار والعقم، منح الله زكريّا وأليصابات هبة الحياة، مؤكّدًا أنَّ مشيئته تعلو على كلّ تقليد. كان بإمكان الوالدَين اتباع العرف وتمجيد اسم العائلة، لكنّهما اختارا الطاعة للوحي الإلهيّ، وسَمّيا ابنهما “يوحنّا”، أي “الله تحنّن”. هذا الاسم كان شهادةً على أنَّ الحياة عطيّة محضَة من الله، تحمل في طيّاتها معنىً ورسالةً تتجاوز المألوف.
هذه الحادثة تطرح سؤالًا جوهريًّا عن جرأتنا في كسر الأطر التقليديّة التي قد تحجب رؤيتنا لمشيئة الله. فكثيرًا ما نربط القرارات المصيريّة، كالإنجاب وتربية الأولاد، بمقاييس ماديّة واجتماعيّة بحتة، كالاستقرار الاقتصاديّ أو الحفاظ على مستوى معيشيّ. ولكنّ النصّ يدعونا إلى نظرة أعمق: الحياة هبة إلهيّة أوّلاً، وهي تستحقّ أن تُستقبل بفرح وثقة، حتّى في خضمّ الظروف الصعبة. ليست الدعوة إلى إنجاب أطفال فحسب، بل إلى تربية تُعلي من شأن القيم الروحيّة والأبديّة فوق الماديّات الفانية.
إنَّ التحدّي الحقيقيّ يكمن في إعادة ترتيب أولوياتنا كعائلات ومجتمعات. فبدلاً من أن ينحصر همّنا في توريث الممتلكات، ندعو إلى توريث الإيمان والحكمة والمحبّة. وبدلاً من إضاعة الوقت في خلافات عابرة، نُعلّم أولادنا أنَّ الحياة قصيرة ثمينة، يجب أن تعاش في عمق العلاقة مع الله والآخرين. كلّ ولادة هي فرصة لتجديد إيماننا بالحياة، ودعوة لأن نكون، مثل يوحنّا، شهودًا لمحبّة الله وتدبيره في عالم يهدّده الانحدار القيميّ والانتهاك لحرمة الحياة.
هكذا، يصير ميلاد يوحنّا نموذجًا لاستجابة بشريّة واثقة لله، تفضي إلى فرحٍ يجمع الأقرباء والأباعد. إنّه يذكّرنا بأنّ “يد الربّ كانت معه”، وهي مع كلّ حياةٍ تُستقبل بقلبٍ منفتح. فليست القضيّة كمّ الأولاد، بل الجوهر هو كيف نعيش دعوتنا كشركاء في عطية الله، حاملين في قلوبنا وأسرنا بذور محبّته ورحمته، ومُعدِّين الطريق لمجيئه في عالمنا.

