الأحد الأخير بعد عيد الصليب

You are currently viewing الأحد الأخير بعد عيد الصليب

الخوري نسيم قسطون:

حين يُصاب الجسد بالعلّة، يسرع الإنسان إلى الطبيب طلباً للشفاء. هكذا تشبه البشريّة في روحها مريضاً يبحث عن الدواء. لقد شخّص الله داءها في الأنانية وحبّ الذات، ووصف لها الدواء الفعّال: المحبّة. لكن هذه المحبّة ليست مجرّد شعور عابر، بل هي عمل متجذّر في الواقع اليومي، تبدأ من حيث نقف ولا تتوقّف عند حدود المشاعر.

كثيرون يظنّون أن القداسة مسيرة استثنائية تحتاج إلى ظروف خاصّة، لكنّها في الحقيقة تُبنى في صميم الحياة العادية. تبدأ في دفء العائلة حيث يغضّ الزوج عن تقصير، وتتجلّى في مكان العمل عبر التعامل بلطف مع الزملاء، وتمتدّ إلى المجتمع بالمشاركة في أفراحه وأتراحه. القداسة لا تنتظر ظروفاً مثالية، بل تزهر حيث نقرّر أن نعيش المحبّة مع مَن حولنا، خاصة أولئك الذين نعيش معهم كلّ يوم.

هذه المحبّة ليست منفصلة عن علاقتنا بالله، بل هي ثمرتها الحتمية. فمنذ تجسّد المسيح، أصبحت صورة الله مرتبطة بالإنسان بشكل لا ينفصم. لا يمكننا أن ندّعي محبّة الله ونحن نغضّ الطرف عن جوعان يحتاج إلى طعام، أو عطشان يطلب شراباً، أو غريب يحتاج إلى مأوى. الإيمان الحقيقي لا يُختزل في الطقوس والصلاة، بل يجب أن يتحوّل إلى فعل ملموس. وكما يقول القديس يوحنا: “مَنْ لا يُحِبُّ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَهُوَ لا يَرَاه”.

في المقابل، قد يبذل البعض جهوداً إنسانية كبيرة، لكنهم يهملون الجذر الروحي الذي يغذّي هذه الأعمال. المحبّة الحقيقية تنبع من علاقة حيّة مع الله، وإلاّ فقدت روحها المجانية وتحوّلت إلى عمل اجتماعي لا أكثر. الفقر المسيحي، كما يذكر البابا فرنسيس، ليس أن نعطي من فائضنا، بل أن نشارك من حاجتنا، مدركين أننا في كلّ محتاج نلقى المسيح نفسه.

هذه الرحلة نحو الملكوت تشبه السفر الذي يتطلّب وثائقَ ضرورية. “جواز السفر” الروحي هو قلب نقيّ مُجدَّد بالتوبة، وأوراق العبور هي أعمال المحبّة التي لا تنفصل عن الإيمان. لا يكفي أحد الشرطين؛ فلا انفصال بين محبّة الله ومحبّة الإنسان. في مساء الحياة، سنُدان على الحبّ، ليس على كميّة مشاعرنا، بل على قدرة محبتنا على التحوّل إلى خبز يشاركه الجائع، وكرامة نمنحها للمهمّش، ووقت نقدّمه لمن يحتاج إلى صديق.

هكذا تصبح الحياة كلّها خريطة طريق نحو السماء، حيث القداسة لا تسكن في السحاب، بل تمشي على الأرض، في بيوتنا وشوارعنا وقلوبنا.

اترك تعليقاً