المسيحي في مواجهة الحجاب الورقيّ المثلّث، جلسات الفكّ والربط، تحضير الأرواح والسحر

You are currently viewing المسيحي في مواجهة الحجاب الورقيّ المثلّث، جلسات الفكّ والربط، تحضير الأرواح والسحر
الأب جوزف خليل-
في زمن تكتظّ فيه طرق الضلال، وتتكاثر فيه الشعوذة مموهة برداء الروحانية والبركة، يُطرح أمام كل مؤمن السؤال الوجودي الحاسم, لا مهرب منه، يدق كجرس دينونة في أعماق كل نفس تدّعي الإيمان:
هل يكفيك الله؟
هل يكفيك من رفعك من عبوديّة الخوف والظلام إلى حرية الحب البنوي (يوحنا 15: 15)؟
أم أنك لا تزال تلهث في ظلمات الخداع، تلهث وراء أمان زائف في رموز مسحورة، وطقوس ملوثة باسم البركة والشفاء؟
هي لحظة امتحان صادمة، تُكشِف حقيقة الإيمان أو تفضح خيانته، فلا مكان فيها لنصف إيمان، ولا فسحة للاعتماد على غير الله. بين النعمة الحيّة والعبوديّة المقنَّعة، يتَّخذ كل قلب موقِفه، وتُرسم ملامح الطريق الذي يسير فيه.
يرفع هذا النص الستار عن ممارسات دخيلة تُغيِّم نور الروح، وتحوّل عبادة الله إلى عبادة الظلام، من الحجاب الورقي إلى جلسات الفك والربط، وتحضير الأرواح والسحر بجميع أشكاله.
فكل من يلجأ إلى الحجاب الورقي المثلث، أو يركض لجلسات الفك والربط، أو يستجدي حماية مزيفة بآيات مكتوبة وغيرها…، قد أعلن خروجه من دائرة البنوّة إلى عبوديّة الخوف والظلام.
فينتقل من الثقة المطلقة بالنعمة الإلهيّة إلى الاستكانة إلى أدوات ملوّثة تحمل خراب الروح وفساد الإيمان.
الله لا يبارك من يبيع حريته لعبادات السحر المقنّع بالنعمة، ولا من يساوم على ولاء قلبه. التعليم المسيحي واضح لا يحتمل اللبس: “كل ما هو سحر، حتى وإن استُخدم من أجل الشفاء أو المساعدة، يُعدّ خطيئة ضدّ الوصية الأولى” (§2117).
فالنعمة لا تُستدعى بطقوس سريّة، ولا تُفعّل بتعاويذ باطلة، بل تُستقبل بإيمان نقي، وقلب منكسِر، وتوبة صادقة.
ما يُسمّى بالحجاب، ذاك الورق الملفوف غالبًا على شكل مثلّث صغير، ليس سوى نجاسة روحية مقنّعة بثوب القداسة.
قطعة قماش، أو ورقة مزخرفة بالدوائر والرموز، تحوي طلاسم وآيات مجتزأة، تُستخدم كتعويذة ميتة لا تنبض بالحياة، تُحمل في الجيب، أو تُعلَّق على العنق، أو تُخفى في زوايا البيوت، كأنها مفاتيح لحماية وهمية.
لكنها، بالحقيقة، ليست إلا وسيلة تُفعَّل بها أبواب الشرّ، وتُستدعى عبرها الأرواح النجسة لتتسلّل إلى ساكني البيت كما إلى كلّ نفس تسكن فيه.
هذه التعويذات لا تنقل بركة، بل تسلب النعمة. تُثقِّل الجسد بالدوار والصداع، وتُشعل كوابيس الثعابين والحشرات والجنّ، وتقتلع السلام من القلب، وتُميت الحضور الإلهي في الأعماق. ينخدع كثيرون بوجود آية أو اسم الله، ظانّين أن ذلك يقدّس ما هو دنس في جوهره. لكن هذه خدعة شيطانية، تُخفي السمّ تحت غطاء نور مزيّف.
وقد حذّر الرسول بولس قائلاً: “الشيطان نفسه يتنكّر في هيئة ملاك نور” (2 كورنثوس 11: 14). بهذا التمويه، تُفتح مصاريع قلب الإنسان للظلمة، فتغدو النفس مسرحًا لتمدد قوى الشرّ وسطوتها، فتُكبّله في العتمة، وتُحجبه عن نور الإلهيّ.
فمن يلجأ إلى هذه الشعوذة يفرّط في علاقة الثقة والمحبة الحقيقية مع الله، ويبرم عقدًا مظلمًا مع قوى الشر وسحرها القذر، كمن يشابه طقوس الوثنيين القدماء الذين استجلبوا الحماية من آلهة زائفة عبر عبادات باطلة.
ليست هذه مجرد زلة أو هفوة، بل إعلان تمرد صارخ على الله وتماهٍ مع سلطان الشيطان.
ومن بين أكثر الممارسات رواجًا وأشدّها خداعًا، ما يُعرف بـ”جلسات الفكّ والربط” و أيضاً “تحضير الأرواح”. جلسات تُنظّم بعبارات دينية، وأدعية مشحونة بروح شيطاني ملوّث، حتى ولو البعض منها مأخوذة من المزامير أو الإنجيل.
من يظنّ أن الربّ يطلب منه تاريخ ولادته أو اسم أمّه لكي يباركه، هو بعيد عن معرفة الرب الحيّ الحقيقي. ومن يعتقد أن الصلاة تزداد قوة إذا قيلت بطريقة “سرية” أو بماء خاص، أو ضمن مجموعة منتقاة، قد أساء فهم جوهر الصلاة المسيحية، التي هي صلة قلبية مباشرة مع الله، لا طقوسًا سحرية تُنفّذ وفق قواعد بشرية.
جلسات تحضير الأرواح، ليست سوى تمثيل شيطاني كاذب، يستغلّ هشاشة النفس البشرية واحتياجاتها العاطفية والروحية، ليزرع فيها وهمًا خادعًا بوجود قوى خفيّة تُفكّ العقد وتتحكّم بالمصير.
لكن الحقيقة المرّة هي أنّ من يفتح قلبه لهذه الممارسات، إنما يفتح باب حياته للروح الشيطانية كي تتسلّل وتستولي عليه.
ما يُقدَّم على أنه “بركة” أو “حلّ”، إنما هو اتفاق غير معلن مع قوى الظلمة، يتمّ فيه تسليم النفس مقابل المال، أو ما هو أسوأ: مقابل ممارسات جنسية أو غير أخلاقية تمسّ الكرامة والجسد، تصل أحيانًا إلى حدّ الانحلال والنجاسة باسم “المساعدة” و”الشفاء”.
كل هذه الممارسات ليست من الله. فالله لا يعقِد العُقد كي يُقال لاحقًا إنّها بحاجة إلى من “يفكّها”. الله لا يُقيّد الإنسان، بل يخلقه للحرية منذ اللحظة الأولى، ويهبه النعمة لا كحالة مشروطة، بل كعطيّة مجّانية لمن يؤمن.
إنّ من يزرع في قلب الآخر فكرة وجود “ربط روحي” سبّبه شخص آخر، إنما يزرع الحقد بدل الغفران، ويؤسّس لانقسام النفس بدل شفاء القلب، ويؤلّه الشرّ في وعي الإنسان بدل أن يدفعه إلى الثقة بيسوع المخلّص.
هذه الجلسات ليست من الروح القدس، بل من المُضلّ، من “أب الكذب” (يوحنا 8: 44)، الذي يُشوّه صورة الله في الذهن البشري. المسيح لم يقل يومًا إنّ النعمة تُسلب بسبب “عين” أو “حسد” أو “سحر”، بل وعد بأنّ من يؤمن به، “من جوفه تجري أنهار ماء حيّ” (يوحنا 7: 38).
فكيف لِما يُسمّى “جلسة شفاء” أن تعطي ما يسكبه الروح القدس مجانًا على من يطلبه بتواضع وإيمان؟
كيف لجلسة مشبوهة أن تحلّ محلّ الأسرار المقدّسة، ومكان اللقاء الحقيقي مع الله في كلمته وفي كنيسته؟
أمّا السحر، سواء دُعي أبيضًا أم أسود، فهو مرفوض كلّيًا من قِبل الكنيسة. فالكنيسة لا تفرّق بين ما يُسمّى سحرًا “لخير الإنسان” وآخر “لإيذائه”، لأنّ كليهما يشترك في جوهر واحد: العصيان على الله، والبحث عن قوى بديلة تُخضع العالم لإرادة الإنسان. ما يُروَّج له تحت عنوان “السحر الأبيض” كوسيلة شفاء، أو جلب للمحبّة، أو حماية من الشر، ليس سوى قناع خادع لعبادةٍ روحيّة منحرفة، لا تتّجه إلى الربّ بل إلى طاقات وقوى غامضة تُعبَّد في السرّ.
لا مجال لحسن النيّة حين تكون الوسيلة شريرة في أصلها. فكلّ وسيلة تنفتح على تواصُلٍ باطنيّ مع الأرواح الغريبة، هي مدخلٌ مظلم إلى عبوديّة روحيّة مموّهة، ولو تذرّعت بالحماية أو الشفاء.
ومتى تسلّلت هذه الظلمة إلى داخل الإنسان، أعمت ضميره، وطمست ملامح الصورة الإلهيّة فيه، وولّدت فيه تبعيّة قويّة لقوى لا يعرف كيف ينجو منها. فيغدو عبدًا لمن يُحضّر الأرواح، مربوطًا دائمًا بقيود “شيخ الأرواح”، مستجديًا الحماية به خارج نعمة الله، مقيدًا بأغلال لا تُرى، ومعزولًا عن النور الحقيقي، نور المسيح القائم من بين الأموات.
لكن الأخطر من كلّ مظاهر الشعوذة المقنّعة، هو حين يُستعمل اسم الله نفسه كواجهة لممارسات باطلة، فيُستدعى الإله ليغدو غطاءً لطقوس غامضة تُمارَس تحت ستار الصلاة. حين يُقال: “لنصلّي”، ويُختَزل اللقاء الإلهي في حركات وهمسات وتعاويذ، تتحوّل الصلاة إلى مسرح لطقوس مشبوهة تُرفَع فيها الأيدي لا للتسليم، بل لتلقّي “شيء مقدّس” يُشرب أو يُؤكل، كما لو أنّ النعمة تُستَحضر بفعلٍ سحريّ.
تُتلى عبارات معيّنة بعدد محدّد، وتُفرَض شروط غامضة لتفعيل “البركة”، فيُقدَّم الله ككائن يمكن التحكّم به عبر طقوس وتقنيات، وتُختزل النعمة في نظامٍ يُفعَّل إذا التُزِم بالشروط. في هذا كلّه انحراف روحي خطير، يخرج عن درب الإيمان ويقترب من عبادة مموّهة تُسيء إلى قدسيّة الربّ.
فالنعمة ليست وصفة طبية تُعطى بحسب الوصفة، ولا تعويذة سحرية تُستحضر بتراتيل مجتزأة. إن النعمة عطية إلهية، لا تُشترى ولا تُباع، ولا تُفعَّل بشروط خفيّة، بل تُعطى مجانًا، من قبل الله الحيّ، عبر الكنيسة وأسرارها من خلال كهَنَتِها، لكلّ من يطلبها بقلبٍ منسحق وتائب.
هذا التلاعب باسم الله هو تجديف، وامتهان لقداسته، وتشويه لصورة الآب المُحبّ. وقد نطق بطرس الرسول بحزم في وجه سمعان الساحر قائلًا: “لتكن نقودك معك للهلاك، لأنك ظننت أن تُقتنى موهبة الله بدراهم” (أعمال الرسل 8: 20). فكم من “سمعان” يسكن بيننا اليوم؟ كم من متاجر باسم الصلاة، يخلط بين التدين والخرافة، ويستغلّ احتياج الناس ليُخضعهم لسلطة روحية مشوَّهة، ويحوّل العبادة إلى طقس خرافيّ يفرغها من معناها الحقيقي؟ هذا ليس إيمانًا، بل انحراف شيطانيّ يتخفّى بلباس النور.
كلّ من يهرب من الألم، أو من أيّة مصيبة، إلى شيوخ السحر طالبًا طقسًا غامضًا، أو يظنّ أنّ الخلاص من الخوف يتمّ في جلسة “فكّ الربط”، لا يُشفى، بل يقع في فخّ إبليس، حيث يتحوّل الوهم إلى حاجة، والحاجة إلى عبادة، والعبادة إلى إدمان. هناك، في هذا الإدمان على الشعوذات، يفقد الإنسان حريته شيئًا فشيئًا، ويتعلّق بطقوس تُخدّره أكثر مما تشفيه، وتُربكه أكثر مما تنير دربه. فبدلًا من أن يستند إلى الإيمان، يبدأ بالاعتماد على وصفاتٍ غامضة، وأشخاصٍ يقدّمون أنفسهم كوسطاء بينه وبين “الله”. وتغدو نفسه أسيرة حلقة مغلقة من القلق والتعلّق، تُغذّيها الخرافة، وتُكرّسها شعائر تُلبَس لباس الصلاة، لكنها خالية من أية نعمة سماوية.
لا شفاء خارج سرّ الاعتراف في حضن الكنيسة، ولا غفران خارج التوبة الحقيقية، ولا خلاص خارج الصليب، وحده يسوع المسيح المصلوب يُشفي الجراح. على المسيحي ألا يضع رجاءه بهذه الرموز الغامضة، وألا يعلّق مصيره على هكذا ممارسات، عليه أن يتنفّس من أسرار الكنيسة، ويستقي من القربان المقدّس حياة أبدية، وأن يتشبّع بكلمة الربّ التي هي، كما قال يسوع “هي روح وحياة” (يوحنا 6:63). من الكنيسة وحدها، ينبع نهر الشفاء، من قلب المسيح المطعون، لا من أدوات تُباع وتُشترى، بل من النعمة المجانية التي لا يُنزلها إلا الروح القدس على من يطلبها بتواضع.
الانسان لا يحتاج إلى أن يفكّ عنه ربطٌ خفيّ، بل أن يتَحرّر من الخطيئة وأن “يستقي من نبع الخلاص” (أشعيا 12: 3). أن يُمسح بمسحة الروح القدس، تلك التي تقيمه ابنًا وتحرّره من روح العبودية والخوف (راجع رومة 8: 15). فالحضور الإلهي لا يُستَحضر، بل يُستَقبل بالإيمان. النعمة لا تُصنع، بل تُعطى. ومن يخلط بين الصلاة الحقيقية وبين الشعوذات والطقوس الشيطانية، إنما يُجدّف على الروح، ويستبدل الله بآلهة اخرى.
في الختام، يبقى سؤال صارخ أمام كلّ مؤمن: من هو الراعي الذي تقف أمامه بثقة؟ من هو الطبيب الذي تلجأ إليه في وجعك؟ هل هو الرب يسوع الذي صُلب حبًا بك، أم رجل غريب يضع يده على رأسك ويعدك بالخلاص مقابل ثمن؟ من يُحرّرك؟ الصليب أم الورقة المطويّة؟ الكنيسة أم الغرفة المظلمة؟ الروح القدس أم كلامٌ يُهمَس في الظلمة ويُردَّد كالتعويذة؟
لنكمل في القسم الثالث، حيث نكتشف أن الظلام قد يتخفّى في التسلية، أو في عادات موروثة، مثل التبصير في فنجان القهوة، تعليق الخرزة الزرقاء، العجين مع النقود على الأبواب، نضوة الحصان، والحذاء في آخر السيارة… أنها ليست ممارسات بريئة، بل انفتاح خفيّ على قوى لا تنتمي إلى الله، ولو بدا الأمر عاديًا في الظاهر.

اترك تعليقاً