مكرم غصوب-
وقف الحقّ أمام المرآة وقال:
“شكرًا لضوئك أيتها العدالة!”
إن رغبة الفرد أو الجماعة في الحصول على حقوقهم من خارج سياق العدالة تحوّل هذه الحقوق إلى مجرّد منافع دونيّةً، في حين أن للعدالة اتجاهًا واضحًا، هو الارتقاء، الارتقاء بالإنسان، الفرد والمجتمع.
والمحكّم الحقيقي مرآة الحقّ وبوصلته. وقيمة الحق في ميزان العدالة، وقوّة العدالة من قوّة العادل، غير أن العدالة أكبر من قوّتها ومن ميزانها.
والمحكّم الحقيقي ناقد في الدرجة الأولى، والناقد الحقيقي هو من أعطي له الخمس وزنات:
أولًا، وزنة الصدق،
وأصعب التحدّيات الصدق مع الذات، وبعدها التصالح معها، ومن ثم تجديدها بالمعرفة. ويبدأ الصدق بالتعرّي حتى من الجسد أمام مرآة الاستفهام، فيسأل الواحد منّا: “من أنا وماذا أريد؟” ليكتمل سؤاله بـ”من نحن وماذا نريد؟”.
ثانيًا، وزنة المعرفة،
والمعرفة قوّة، لكنها مسؤوليّة إنسانيّة أخلاقيّة أيضًا. وليس بالمعرفة التراكميّة يعي الإنسان ويتثقّف، إنما بالمعرفة التفاعليّة. تبدأ المعرفة بالسؤال؛ فالتساؤل ثم الانطباع، أما الرأي المؤسّس لاتخاذ القرارات فبحاجة إلى معرفة الوقائع والقواعد والعقل بالمنطق، لذلك يجب ألّا تعطى حريّة إبداء الرأي في مسألة ما إلّا للعارفين بها.
ثالثًا، وزنة الحريّة،
ليس حرًّا من يتّخذ من حاجات عيشه غايات: السلطة والمال واللذّة والصورة. ويستحضرني هنا قول منصور الرحباني: «اللّي بدّو يدخل الأسطورة، بدّو ينزل من الصورة». ليس حرًّا الذي تسمع رنين السلاسل في عقله المقيّد بالمقدّس حين يتكلّم، ليس حرًّا الذي يحلّق وهو أسير جناحيه والمدى، ليس حرًّا من يهدم ولا يمتلك أسرار البناء الجديد وأدواته. الحريّة كما المعرفة مسؤوليّة إنسانيّة أخلاقيّة، الحريّة حين نتحرّر من العيش لنتعلّق بالحياة.
رابعًا، وزنة التجاوز،
حين يصبح الشكل سجنًا للمعنى، تنشد الحريّة معنى يحرّره شكله. فالتجاوز جرأة وقدرة على الانفلات من الزمان والمكان، ليس للوصول إلى اللامعنى، إنما لتخطيط حياة جديدة ورسم مثلًا عليا بديعة للإنسان والمجتمع. والمتجاوز يدرك جيّدًا أن الطريق الذي يوصل هو الطريق الذي لا ينتهي.
خامسًا، وزنة الإبداع،
والإبداع تحليق دائري حلزوني ارتقائي بجناحي الخيال والسؤال؛ الأول يخفق بالخلق المتجدّد، والثاني بالمعرفة المسؤولة. إنه المقدرة الروحيّة الفكريّة التي تتغلّب على كل صعوبة وتنتصر بالرغم من الصعوبات وليس بسببها. إنه صناعة الضوء.
فأيها المبدعون، شعراء وأدباء وفنّانين ونقّادًا، لا تدفنوا وزناتكم في أرض عاقر خوفًا من السيّد الذي يحصد حيث لم يزرع، بل اصنعوا من تفاعلها الضوء الخصيب. ضوء تكونون منه وليس تحته، فيقف الحقّ كما الخير والجمال أمام المرآة ويقولون لكم: شكرًا.
