خميس الأسرار

You are currently viewing خميس الأسرار

الخوري نسيم قسطون:

في تلك الليلة المقدسة، عندما انحنى الله ليغسل أقدام تلاميذه، أعطانا درساً لا يُنسى: الملكوت ليس سلطةً تُمارَس، بل محبةٌ تُمنَح. في العليّة حيث أسّس سرّ حضوره الأبدي، لم يقدّم لنا طقوساً نكرّرها، بل أعطانا ذاته كطعامٍ للطريق. “اصنعوا هذا لذكري” – لم تكن وصيةً باحتفالٍ ديني، بل دعوةٌ لاستمرار تجسّد المحبة في العالم.

لكنّنا، للأسف، حوّلنا العطاء الإلهي إلى عادةٍ ميتة. ننظر إلى القربان ولا نراه، نسمع الكلمة ولا نسمعها، نلمس السرّ ولا نحسّ به. صلاتنا أصبحت كلماتٍ جوفاء، واشتراكنا في الذبيحة تحوّل إلى حركاتٍ آلية. نطلب من الله أن يبارك خططنا، بدلاً من أن نسأله ما هي خططه لنا. نريد إلهاً يوقّع على قراراتنا، لا أباً نسلّم له حياتنا.

القداس ليس ذكرى حدثٍ مضى، بل لقاءٌ حيٌ مع الحبّ المتجسّد. عندما نقول “آمين” على جسد الربّ، نوقع عهداً بأن نحمل هذا الحبّ إلى العالم. لكنّ “آمين”نا غالباً ما تكون كاذبة – ننال القربان ثمّ نرفض أن نكون قرباناً لأخوتنا. نأكل من الخبز الواحد، ثمّ نتصارع كالذئاب في حياتنا اليومية.

يهوذا لم يخن بسلة فضةٍ فقط، بل بقلبٍ اعتبر المسيح سلعةً بين السلع. وأين نحن منه اليوم؟ بأي ثمنٍ نبيع علاقتنا بالله؟ بساعة نوم؟ بموعدٍ تلفزيوني؟ بتعلّةٍ تافهة؟ الخيانة لا تحتاج إلى ثلاثين من الفضة، بل إلى قلبٍ يضع الله في آخر قائمة أولوياته.

في بستان الزيتون، علّمنا يسوع معنى الصلاة الحقيقية: “لتكن لا مشيئتي، بل مشيئتك”. بينما صلاتنا غالباً ما تكون: “لتكن مشيئتي… وإذا تعذّر، فلتكن مشيئتك!” نريد من الله أن يبارك اختياراتنا، بدلاً من أن نختار ما يباركه. نصنع لأنفسنا آلهةً على صورتنا، ثمّ نغضب عندما لا تستجيب لطلباتنا!

 

في هذه الليلة المقدسة، يدعونا الربّ إلى استعادة الدهشة. أن ننظر إلى القربان لا كقطعة خبز، بل كأعظم قصّة حبّ عرفها التاريخ. أن نرى في الغسل ليس طقساً قديماً، بل درساً في التواضع الإلهي. أن نقرأ الإنجيل لا كنصٍ من الماضي، بل كرسالةٍ شخصيةٍ لنا اليوم.

 

المسيح لا يزال يغسل أقدامنا كلّ يوم:

– من خلال الزوجة التي تخدم زوجها المريض،

– عبر الأب الذي يتعب لأجل أولاده،

– في الصديق الذي يغفر خيانة صديقه،

– بيد الأمّ التي تمسح دموع طفلها.

“اصنعوا هذا لذكري” تعني: عيشوا كما عشت، أحبّوا كما أحببت، امنحوا كما منحت. القداس لا ينتهي عندما نقول “اذهبوا في سلام”، بل يبدأ عندما نخرج لنحمل هذا السلام إلى العالم.

اليوم، يقف الربّ ليسألنا: هل أنتم مستعدون لأن تكونوا أفخارستيا حية؟ أن تتحوّل حياتكم إلى خبزٍ يُكسر من أجل الجياع، إلى دمٍ يُسفك من أجل المظلومين؟ أن تكونوا ذكرى حيةً لمحبّتي في هذا العالم؟

الجواب بين أيدينا… وفي قلوبنا.

خميس أسرار مبارك!

اترك تعليقاً