لا نهاية للقلق إلا بنهاية الأسباب التي تخلقه.

You are currently viewing لا نهاية للقلق إلا بنهاية الأسباب التي تخلقه.
ميخائيل نعيمه-
القلق هو شعورنا بالإنزعاج من حالة نحن فيها. وهذا القلق يولِّد فينا الشَّوق إلى التَّخلُّص ممَّا يزعجنا. والشَّوق، بدوره، يولِّد تيَّارًا من الفكر والخركة. فخيثما كان القلق كان الشَّوق. وحيثما كان الشَّوق كانت الحركة. وهكذا فالقلق والشَّوق والحركة هي الثَّالوث غير المنفصل الذي به وعليه تقوم خياتنا.
أمَّا أسباب القلق، وإن بدت كثيرة ومتنوِّعة ما بين جسدانيَّة وعقلانيَّة ووجدانيَّة، فمردُّها إلى واحد. وهو انزعاجنا من أن يكون في حياتنا أي شيء لا نستطيع أن نتحكَّم في تحكُّمًا كاملًا فنسيِّره حسبما نشتهي. فكيف بنا وفي الأرض والسَّماء ربوات ربوات الأشياء والحالات التي ما تزال تتحكَّم فينا ولا سلطان لنا عليها؟ وهل في استطاعتنا أن نتحكَّم في شيء نجهله ونجل طبيعته؟ وإذن فالينبوع الأوَّل والأخير للقلق وما يلازمه من شوق وحركة هو جهلنا للقوى التي تتحكَّم فينا ولكيفيَّة التَّحكُّم فيها أو ، في الأقل، لكيفيَّة تفهُّّمها ومسايرتها عن رضى منَّا وعن محبَّة وطواعية. وبعبارة أخرى، إنَّه جهلنا للغرض من وجودنا ، وللغاية التي من أجلها كان القلق، وكان الشَّوق، وكانت الحركة.
ليس يقلقنا البرد ما دمنا في مساكن تتوافر فيها جميع أسباب التدفئة. ويقلقنا إذا هبَّت علينا عاصفة ثلجيَّة في برِّيَّة، واشتدَّ زمهريرها، وما من بصيص نار أو نور على مدى أميال وأميال. ولا يقلقنا الجوع ونحن في بيوتنا، في معاجننا خبز، وعلى النَّار قِدر يُطهى فيها غذاؤنا أو عشاؤنا. ويقلقنا إذا نفذ زادنا في مفازة لا نبصر لها نهاية. ولا تقلقنا العتمة ما دمنا واثقين من أن في متناول يدنا زرًّا نضغط عليه فيغمرنا بالنور. وتقلقنا إذا أدركتنا ونحن نسير في قعر وادٍ مليء بالصخور والمزالق، أو في غابة كثيفة سكَّانها السِّباع والأفاعي، وليس في جيبنا عود ثقاب ولا في قبضتنا عصا.
أجل. إنَّه الجهل يولِّد فينا القلق ممَّا نجهل. والقلق يولِّد الشوق. والشوق يبعث فينا تيَّار الفكر والحركة. أمَّا الغاية من هذه كلَّها فهي الوصول بنا إلى المعرفة التي تمكِّننا من التَّسلُّط على ما نجهل. وإذ ذاك فلا نهاية لتيَّارتتا حتَّى لا يبقى فينا وفي سائر الأكوان من حولنا ما نجهل طبيعته وكنهه، أو حتَّى نبلغ المعرفة الكاملة التي إليها تنتهي وفيها تضيع جميع التَّيَّارات البشريَّة مثلما تنتهي الجداول والأنهار إلى البحر وتضيع فيه. وذلك لن يتم لنا في مدى حضارة واحدة، أو دورة واحدة من دورات الزمان. فما أجهلنا نتمسَّك بتلك الحضارة أو هذه تمسُّك الغريق بخشبة أو بقشَّة. إذ ما من حضارة إلَّا كانت تمهيدًا لحضارة أخرى. ثمَّ ما أجهلنا نقاوم تيَّارًا بتيَّار. وتيَّاراتنا، مهما تكن أنواعها وألوانها واتجاهاتها، هي نتيجة طبيعيَّة وحتميَّة لما نحسَّه من قلق وشوق. فهي تنبع منَّا وفينا – عن وعي وعن غير وعي. وهي تتلاحق وتتشابك، فآنًا تتقاطع في سيرها، وآونةً تتمازج، وأُخرى تتباعد. حتَّى ليتعذَّر علينا القول أين يبتدئ أيّ منها وأين ينتهي. بل إن أيًّا منها لا ينتهي ما دام موصولًا بما قبلهوبما بعده، وما دام النَّاس يفتِّشون عن المعرفة التي ذكرت.

اترك تعليقاً