يومَ سرقوا رُمحَ الخُضر

بقلم جورج مغامس

I

تجلسُ الثّكلى على دِماها، وعيناها الرّمادُ تَشظّى عنه الشّحوبُ في الأفقِ

فآهٍ بيروتُ، يا أمَّ الأقلامِ والأعلامِ والأحلامِ الممكنةِ ومَن بنَوا فيكِ وجودَهم السَّويَّ والصّروحَ

آهٍ أمّي، يا شجرةَ المقيمينَ والعابرينَ وذكرياتٍ ملءَ السّمْعِ والبصرِ وقلوبٍ عاشقة

آهٍ يا مدينةَ الليلِ والنّهارِ جُمّعتْ على يديها دنيا من المدنِ

آهٍ يا “شقيّة”.. يا حبيبتي الشّقيّة

آهٍ

كيف شرّعتِ صدرَكِ للقرصانِ.. للعبدِ الأجيرِ

كيف صِرتِ السّبيّة

عُصبتِ غُصبتِ صُلبتِ

!دُفنتِ في مقابرِ الحرّيّة

(20-8-2020)

 

II

يوماً بعد يومٍ، وروحٌ بعد روحٍ تأوي إلى بيتِ أبيها بعيداً بعبدا

والنّعوشُ البيضُ تحملُ الأشلاءَ زَهوى، وما من مسافةٍ بين الدّمعةِ والدّمعةِ إلّا الذّهولُ

فالدّروبُ هَمهماتٌ تهامى عليها قمقمُ الطّيبِ والزّهرُ البتولُ

آهٍ قلبي أيّها المفطورُ

حتّامَ أنتَ في صدريَ الصّبرُ

لاتغفو ولا تصحو

لاترجو ولا تنجو

وتَبلى

وقيداً أو قديدا

وئيدًا وئيدًا تحشرجُ في دويِّ الفراغِ؟

ألا إنّيَ الشَاهدُ أشهدُ

أَنّ المنايا من مَناتنِهم

هم طُغمةُ الأوغادِ

ودونَهم أحبّةٌ تحت التّرابِ

(21- 8- 2020)

 

III

هل رأيتم زيتونةً تخشعْ.. زيتونةً تركعْ.. زيتونةً تدمعْ

تبذلُ زيتَها من مسامِّ الورقِ؟

عيني أنا رأت

أقسمُ بالصّعترِ والحبقِ

وكانْ

أن تَفلّجَ الرّمّانْ

ضاقَ بمحابسِه

تعرّى حِصرِماً مرّا

وكاد يسترُه العنكبوتُ

بلى

جنينتي الصّغيرةُ كئيبة

“آبُها”

لا يروّيه لا دمي

ولا الماءُ

آهٍ آبُ

أيّها الأرضُ الخرابُ

من نوارسِ البحرِ إلى جُمّيزِ الأشرفيّه

وصدىً صدّعَ الفضاءَ الأرحبَ خلّعَ القلوبَ

إلامَ تصمتُ؟

إحكِ آبُ خبّرْ عن خبائثِهم

عن فظائِعهم

حرامٌ أن نُنيبَ عن الفاعلِ المفعولَ

إنّهم إنّهم

يا كَفنَ الأيّامِ الجميلة

إسماً إسماً

عطّلوا المصانعَ

فرّغوا المتاجرَ

نهبوا الخمائرَ والخمورَ

قوّضوا روّعوا جوّعوا شرّدوا هجّروا

فَجَروا

جيّشوا الغِلمانَ والغِربانَ

فيا لَأرحامٍ بالآثامِ حَبِلت

وأنجبت لذا الزّمنِ هذه الأوثانَ

إنّ نيرونَ بقصورِهم بجحورِهمِ الفاجرة

أنا أراهُ

أما أنتم ترَونَ؟

(22-8-2020)

 

IV

مررتُ بحيِّها القديم، من بَعيدي، ألملمُ شريطَ الذّكرياتِ عن الشّبابيكِ ووجهَ جارةٍ وسيكارة، وفُنجانَ قهوةٍ بعضُه على الشّفةِ وبعضُه في المدى الأزرقِ

مررتُ من بَعيدي

وهل حَيلٌ يَشدُّ بحَيلي أم نُسغٌ يَشُبُّ بالكبدِ؟

حُمراً كانتِ القراميدُ

نوّارةً أُصُصُ الزّهرِ والشُّرَفُ

ويمامٌ يزاحمُ الدّوريَّ على الطُّنُفِ والشّجرِ

وفي الزُّقاقِ الرّخيِّ قناديلُ لليلِ العاشقِ المُشتاقِ

آهٍ

وحالت بنا الحالُ

من بَعيدي

يا نجيّيَ الّذي في المتاهةِ المارقة

ضَفرتُ لعُروتي نجمةً من ياسمينةِ الأفياءِ

أغمضتُ عيني على ودائعي في قَمريّةٍ في وَرديّةٍ في الثّغورِ الرّافهة

وتقرّيتُ جداراً خطَّ قَشيبَه فضيضُ الطّلاءِ المنضَّدِ

كدتُ بوَلهي أختنقُ

عَظماً بعظمٍ أنحطمُ

إي من بَعيدي، مررتُ بحيِّها القديمِ

بحيٍّ كان حيًّا

شيخاً برَوقةِ الشّبابِ

نكّسوهُ

أبرحوهُ

ذَبحوهُ من الوريدِ إلى الوريدِ

صارَ الرِّمّةَ في بُؤرةٍ من الرِّممِ

آهِ يا جميلتي

يا بيروتَ الهوى المِمراحِ

ما الّذي أردَوكِ بهِ

وبهِ إلى الجحيمِ ساقوكِ؟

سؤالَ العارفِ أسألُ

أَوليستِ النّاسُ بالسِّيرِ؟

ألا إنّهم هم عصابةُ الأشرارِ

مَن عبثوا وعاثوا ودسّوا قرودَهم السّودَ

بجلدِكِ وبالأحشاءِ

(23-8-2020)

 

V

ربّي وإلهي

أنا نادمٌ من كلِّ قلبي

لأنّي صدّقتُ بأنّ يومي وغدي بأيدٍ أمينة

فسعيتُ وجنيتُ واقتنيتُ

وخبّأتُ للشّيخوخةِ مَؤونةَ الرَّغَدِ

نمتُ ملءَ جفوني

وفاتني أنَّ السّارقَ يَسرِق

يَنقُبُ يَنكُتُ

يَنقُتُ عظامي

حائرًا بائرًا أَقعدَني

فاتني سيّدي

أَنّهم لَغَموا لُقمتي سقفي وسريري

عَرّوني قميصًا قميصًا

واستحضروا لمأتمي نارًا من البحرِ

صبّوا بيروتَ على رأسي

سيّدي

إغفِرْ لي خطيئتي

خطيئتي عظيمةٌ عظيمةٌ

أنا صدّقتهم

فضحّوا بي

وضحّوا لي ببيروتَ

ذبحونا لمئويّةِ لبنانَ الكبيرِ

(10-9-2020)

 

VI

حجرٌ على حجرٍ على حجر

ركامٌ من الوجدان

أكبدٌ مرضوضةٌ بأسى الجدران

وأرواحٌ هائمة

فلا حيٌّ يحيّي

ولا زهرٌ يفوحُ

والفجرُ طِرْحٌ

ودونَه الكَتّانُ تَسَربلَ بالنُّدَبِ

وأنا السّاجدُ بصدري

أصلّي على المسوحِ

وأبكي

فيا أيّها الّذي جادَ بالأرضِ

وهيّأَ لها الأنبياءَ والرّسلَ

وفاكهةً جُنّت بها الجنّة

أيّها القديمُ تُضرِمُ النّارَ

تُبيدُ بطاعونٍ بطوفانٍ بصواعق

تعاقب

عاقبْهم

عاقبِ العقارب

أذلّوكَ أذلّونا

قَدّوكَ أحزابًا وراياتٍ

قَدّونا يدًا بتراءَ ورِجلاً شلّاءَ

آهِ

خَضّبونا إلى وَلدِ الوَلدِ

أيّها القديمُ

لا تعاملْهم بسَعةِ السّماحِ

فهم يدرونَ ماذا يفعلونَ

وجلودُنا تدري

غدًا صباحًا

وفي كلِّ صباحٍ ومساء

أُنظرْ إلى بيروتَ

تَرَ ألفَ يهوّذا يقايضونَ موتَنا بالمناصب

لا خَجلَ ولا وَجل

فيدَكَ على أيديهم

حنانَيكَ

أَقَمْ دينونتَكَ الآنَ

إنّ بيروتَ ألعازر

ونحن مرتا ومريم

(04- 9- 2020)

 

VII

مدينتي مدينتي

يا شرفةً على البحرِ ومتنُها الجبل

ولك من شرقٍ وغربٍ محطُّ رحال

أيّتها المائدةُ الوليمةُ الحافلة

وليس لك بابٌ يوصدُ

يا مدينةَ المدنِ

وواسطةَ عِقدِها على الأزرق

أيّتها الشّهيدةُ كلَّما أرضٌ زلزلت

أو بشرٌ تَطَمَّع

ثمّ تَتَفينَقينَ

تَترسّلينَ بلا هوادةٍ

بسخاء

كأنّك الماء

من العمادِ إلى الصّليبِ

مدينتي مدينتي

يا بيروتُ العصيّةُ على الظّلمات

إنّ مساءَ ذيّاكَ الثّلثاء

وإنْ هَيّلَ عليك العَصْفَ واللهبَ

وبلّى وبلبلَ

وسامَك الخَسْفَ والخَلاء

خَواءً خَواء

فإنّ ما ذَرّفَ من الدّمعِ

زُوفا

بها يَنضحُكِ

يطهّرُكِ من نجاسةِ الأنجاس

ورَجاساتٍ استهجنتها الشّياطينُ

إنّكِ لَكَتلك الأشجارِ

يجمّلُها التّقليمُ

ويَزيدُها نمّوًا وإثمَارا

إنّكِ

وأنتِ النُّسغُ كامنًا ومنتشرًا

إذا ما ماتَ منكِ فَرعٌ

قامَ فَرعٌ

تضاعفَ فروعًا فروعا

(06-9-2020)

 

VIII

في السّاعةِ الرّهيبةِ

السّاعة السّادسةِ والدّقيقةِ السّابعةِ

من رابعِ أيّامِ الشّهرِ الثّامنِ

ارتجّتِ المدينةُ انهارت

تقطّعت أوصالُها

وانقطعَ فيها الحسُّ والنَّفَس

فكلُّ العكاكيزِ والمرايا واللُعَب

وما مِن مَجاني التّعب

وكانَ التُّحفَ والطُّرَف

تَطحّنَ واندثَر

ومنذ ذاك

لا الليلُ ليلٌ ولا النّهارُ نهارٌ

قلقٌ يطّردُ

يَشقعُ على الهمِّ همًّا

يلبّدُ السُّوَيداءَ

يصبُّها غُصصًا في الحُلوقِ

حُرقًا في مدى الأحشاءِ

يسمّرُها فوقَ الأسرّةِ كابوسًا يلاطمُ كابوسا

منذ ذاك

:والنّجيعُ يبتهلُ

إنّ مَن بأيديهم سفحوني

هم بأرجلِهم اليومَ يطؤوني

ردّهم ربّي عنّي

ردَّ هذه الجائحة

(08-9-2020)

اترك تعليقاً