الأب نسيم قسطون:
في قلب الحياة اليوميّة، حيث تتشابك العلاقات وتتنوّع التحدّيات، يظهر مفهوم القداسة ليس كفكرة بعيدة أو مثاليّة، بل كمسار عمليّ يعيشه الإنسان في تفاصيله الصغيرة والكبيرة. فالقداسة ليست هروبًا من الواقع، بل هي انغماس فيه بوعي وإرادة، حيث تصبح المحبّة هي اللغة المشتركة التي تُترجم الإيمان إلى أفعال. فكما يُشخّص الطبيب الداء ويصف الدواء، يشخّص الله داء البشريّة ويقدّم لها العلاج الفعّال: المحبّة التي لا تعرف حدودًا.
المحبّة، في جوهرها، ليست مجرّد شعور عابر أو كلمات تُقال، بل هي فعلٌ يتحقّق في العطاء والخدمة. فالمسيحيّة تدعو إلى تجاوز المحبّة النظريّة إلى المحبّة العمليّة، التي تلامس حياة الآخرين وتُخفّف من آلامهم. هذه المحبّة لا تفرّق بين قريب وغريب، بل تُعطي بلا حساب، لأنّها تنبع من محبّة الله التي لا حدود لها. فمن يحبّ الله حقًّا، لا بدّ أن يحبّ أخاه الإنسان، لأنّ الله والإنسان مرتبطان ارتباطًا وثيقًا في المسيحيّة.
يظهر إنجيل هذا الأحد (متى 25: 31-46) أنّ التحدّي الأكبر يكمن في عيش هذه المحبّة مع الأقربين، أولئك الذين نعيش معهم يوميًّا ونعرف نقاط ضعفهم وتقصيراتهم. هنا تظهر القداسة الحقيقيّة، عندما نتعامل مع الآخرين برحمة وصبر، ونغضّ الطرف عن أخطائهم، ونقدّم لهم العون دون انتظار مقابل. هذه القداسة تبدأ في المنزل، حيث تُبنى العلاقات على الاحترام المتبادل والتضحية، وتستمرّ في العمل والمجتمع، حيث تصبح المحبّة جسرًا للتواصل والتعاون.
القداسة أيضًا هي مسيرة دائمة من التجدّد والارتقاء. فكما يحتاج المسافر إلى جواز سفر ليصل إلى وجهته، يحتاج الإنسان إلى “جواز روحي” ليصل إلى الملكوت. هذا الجواز لا يُكتسب إلّا من خلال حياةٍ مليئة بالصلاة والأسرار، ومن خلال أعمال المحبّة التي تُظهر إيماننا العميق بالله. فالمحبّة والرحمة هما المفتاح الذي يفتح أبواب السماء، لأنّهما يعكسان صورة الله فينا ويُظهران إخلاصنا لوصيّته.
في النهاية، القداسة ليست هدفًا بعيد المنال، بل هي طريق نسير فيه كلّ يوم، خطوة بخطوة، من خلال اختياراتنا وأفعالنا. هي ليست حكرًا على قدّيسين معيّنين، بل هي دعوة موجّهة لكلّ إنسان يؤمن بالله ويريد أن يعيش بحسب مشيئته. فليكن شعارنا في هذه المسيرة هو المحبّة، لأنّها هي التي تُعطي الحياة معناها الحقيقيّ وتجعلنا قريبين من الله ومن الآخرين.