الخوري نسيم قسطون:
يأخذ إنجيل اليوم (مت 1: 18-25) القارئ في رحلة تأملية عميقة تتجاوز السطحية الظاهرة للأحداث المروية لتكشف أبعادًا إنسانية وروحية تستدعي التوقّف والتفكّر.
قصة القديس يوسف، بمواقفه الهادئة وحكمته العميقة، تضع أمامنا نموذجًا فريدًا من الطاعة والثقة بمشيئة الله.
يوسف، الذي وجد نفسه في موقف مربك، لم يدَع حيرته تسيطر عليه، بل أظهر برارة حقيقية تتجاوز الفهم التقليدي للبرّ. تصرّفه عندما اكتشف حمل مريم لم يكن مبنيًا على غضب أو انتقام، بل على نية صادقة لحمايتها. هذا النوع من المحبة الناضجة يشير إلى عمق ارتباطه بالله، حيث إنّ موقفه لم يكن مجرّد رد فعل بشريّ عادي، بل تجلٍّ لروحانية تنبض بالسلام والثقة.
من جهة أخرى، يسلّط نصّ الإنجيل الضوء على بعد جديد في شخصية يوسف، فهو ليس فقط خطيبًا محبًا لمريم، بل أيضًا أبًا بالتبني لابن الله المتجسد. كان له دور فريد في تثبيت هوية يسوع كمخلّص، منحه اسم “يسوع” ودخوله في نسب داود الملكيّ. بهذا، أعطى يوسف للطفل يسوع مكانته الموعودة كمسيح منتظر، محققًا بذلك النبوات القديمة.
الحلم الذي أتى ليوسف حمل رسالة إلهية واضحة، ولكنه أيضًا اختبر ثقته بالله. في حياتنا اليومية، قد نجد أنفسنا في مواقف تتطلّب قرارًا شجاعًا يستند إلى الثقة بأن الله يوجّهنا، حتى إن لم نرَ الطريق بوضوح. يوسف يعلّمنا كيف نضع إيماننا فوق مخاوفنا وكيف نسير نحو المجهول بإرادة صافية ومطمئنة.
الإنجيل اليوم يدعونا للتفكير في كيفية تعاملنا مع قراراتنا اليومية. هل نعتمد فقط على حساباتنا البشرية ومصالحنا الشخصية، أم نفتح قلوبنا لإلهام الله؟ في عالم مليء بالفوضى والضجيج، نحتاج إلى لحظات من الصمت والإصغاء مثل تلك التي عاشها يوسف في حلمه. الله لا يزال يتكلّم معنا، ولكن هل نملك الوقت والإيمان لنتجاوب معه؟
مدرسة يوسف هي مدرسة الطاعة الهادئة التي تتجاوز مظاهر العالم. هو الذي صمت في وجه الأحداث ولم يستخدم قوّته إلا لخدمة مشيئة الله. إن نموذجه يفتح أعيننا على أهمية العمل الصامت الذي ينمو في ظلّه ثمار الحياة الروحية والإنسانية. كم نحن مدعوون اليوم، وسط صخب الحياة، أن نستلهم من صمت يوسف وإصغائه العميق لإرادة الله!
في كل واحد منا هناك دعوة لتبنّي مشيئة الله في حياته. قد تكون الدعوة مختلفة بين شخص وآخر، لكنها تتشابه في جوهرها: أن نتجاوب مع خطة الله بكل ثقة وإيمان. هذا التجاوب لا يعني غياب التحديات، بل على العكس، يتطلب شجاعة عظيمة للتخلّي عن الذات والمصالح الشخصية.
وفي النهاية، الإنجيل لا يعطينا فقط قصة لنقرأها بل نموذجًا نعيشه. القديس يوسف يقدّم لنا صورة إنسان يثق بالله إلى أقصى الحدود. إنه مثال للإيمان الذي لا يتزعزع، للمحبة التي تضحي، وللصمت الذي يُثمر. كيف يمكن أن نعكس هذا النموذج في حياتنا؟ كيف نجعل من قراراتنا، الكبيرة والصغيرة، مساحة يظهر فيها عمل الله بوضوح؟
فلنسأل أنفسنا اليوم، وسط ما نواجهه من تحديات وحيرة: أين نحن من مشيئة الله؟ وهل نملك الشجاعة لتبنيها كما فعل يوسف؟ الإيمان ليس رحلة خالية من الصعوبات، ولكنه الطريق الذي يثمر فيه السلام الحقيقي والفرح العميق. يوسف البارّ يدعونا أن نكون شركاء لله في صنع قراراتنا، لنحيا حياة تليق بدعوتنا كأبناء له.