أحد الثالوث الأقدس

You are currently viewing أحد الثالوث الأقدس

الخوري نسيم قسطون:

في لحظةٍ حاسمة من مسيرة يسوع الأرضيّة، وبعد قيامته، التقى بالتلاميذ وأوصاهم بما يمكن اعتباره بمثابة وصيّته الأخيرة (متى 28: 16-20)، وقد احتضن هذا اللقاء أبعادًا لاهوتيّة وروحيّة تُلخّص كلّ مسيرته وتعاليمه. فالكلمات الأخيرة ليست مجرّد ختام، بل انطلاقة جديدة، حيث سلّمهم الربّ رسالة تشمل كلّ البشرية وكلّ الأجيال، وأكّد لهم حضوره الدائم، لا كذكرى ماضية، بل كحضور فاعل متجدد.

لم يكن وصول التلاميذ إلى الجليل حدثًا عابرًا. فالجليل، الأرض التي انطلقت منها البشارة، باتت مسرحًا لولادة الرسالة الجامعة، لأنّ فيها يلتقي البشري بالإلهي، ويجد التلميذ المرتبك نفسه في حضرة القائم من بين الأموات. هذا الانتقال من أورشليم، حيث ساد الخوف والحزن، إلى الجليل، أرض الحياة والبداية، يعكس الانتقال من الظلمة إلى النور، من الإنغلاق إلى الانفتاح على رسالة تتخطّى الحدود.

ولعلّ أجمل ما في هذا اللقاء هو موقف يسوع من تلاميذه، الذين ما زال في داخلهم شيء من الشكّ والخوف، ومع ذلك لم يوبّخهم، بل أوكل إليهم الرسالة. لقد رأى في ضعفهم فرصة للعمل بنعمته، وفي تردّدهم مجالًا لتأكيد أنّ قوّة الإنجيل لا تعتمد على كمال البشر بل على أمانة الله. وهذه نقطة جوهريّة لفهم العمل الرسولي، إذ لا يبدأ من الكمال بل من الاستعداد للانطلاق رغم كلّ النواقص.

فيما أكّد يسوع لهم أنّ “كلّ سلطان قد أُعطي لي في السماء وعلى الأرض”، كان يؤسّس لفهم جديد للسلطة: سلطة المحبّة، لا الهيمنة؛ سلطة الغفران، لا الدينونة؛ سلطة الخدمة، لا السيطرة. وهذه السلطة، التي مُنحت له بعد قيامته، ليست امتيازًا شخصيًّا بل دعوة لحملها إلى كلّ البشر عبر البشارة والتعليم والمعموديّة.

إنّ النداء إلى تلمذة جميع الأمم ليس شعارًا عابرًا بل هو دعوة واضحة للانفتاح والتخطّي. فالتلميذ الحقيقي ليس مَن يحفظ كلمات المعلّم فقط، بل من يترجمها شهادةً حيّة في حياته. والمعموديّة، من جهتها، ليست فقط طقسًا أو احتفالًا اجتماعيًّا، بل هي التزام بالعيش بحسب روح الإنجيل، في علاقة شخصيّة مع الآب والابن والروح القدس، علاقة تنمو وتتجدّد وتثمر.

ما يطلبه يسوع هو أكثر من مجرّد نشر تعاليم، هو نقل حياة. والتعليم الذي أوصى به لا ينحصر في معرفة عقائديّة بل يشمل تعليم حفظ الوصايا، أي عيشها في الواقع اليومي. فحفظ وصايا يسوع ليس تقيّدًا بقوانين خارجيّة بل دخولٌ في منطق الحبّ الذي يشكّل قلب رسالته. هكذا يصبح التلميذ مَن يعيش الإنجيل أولًا ثمّ يعلّمه.

ومن أبرز ما يلفت في هذا النصّ هو ختام كلام يسوع: “ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى نهاية العالم”. هذا الوعد ليس مجرّد طمأنة بل هو دعامة كلّ الرسالة المسيحيّة. إنّ حضور يسوع المستمرّ هو قوّة الكنيسة وهو الضمانة بأنّ المسيرة، مهما تعثّرت، لا تُترك لأهواء البشر. فالله لا يرسلنا لنكمل المهمّة وحدنا، بل يرافقنا، يُلهمنا، يُقوّينا، ويحوّل ضعفنا إلى شهادة حيّة.

وسط عالم كثير الاضطراب، تظلّ هذه الكلمات منارة رجاء. فالواقع قد يحمل في طيّاته صعوبات ومآسي ولامبالاة، إلّا أنّه لا يلغي حضور الربّ الفاعل. وحيث تكون كلمة الله حيّة ومعلَنة، وحيث تُعاش المحبّة كوصيّة أولى، هناك تنبثق الكنيسة الحيّة.

من هنا، تُصبح دعوتنا اليوم امتدادًا لصوت المسيح القائم من بين الأموات، دعوةً لنفتح قلوبنا لنعمته، لنعيش كمسيحيّين في العمق لا في الشكل، لنُصبح شهودًا لا من خلال الوعظ فقط بل من خلال أسلوب الحياة الذي يعكس حضور الله في كلّ موقف. فالإيمان المسيحي ليس تقليدًا نرثه، بل هو علاقة حيّة تُغذّى بالصلاة، بالتأمّل، وبالعيش المشترك مع الآخرين بروح الخدمة.

وهكذا، ما قاله يسوع منذ ألفي عام على جبل في الجليل لا يزال حيًّا في كلّ مرّة نُعلن فيها الإنجيل بأمانة، ونعيش كأبناء النور، ونسير بخطى التلاميذ رغم ضعفنا. الربّ معنا، في كلّ حين، في عملنا، في ضعفنا، في رجائنا، في دعوتنا، حتى نهاية العالم. آمين.

اترك تعليقاً