بقلم الخوري نسيم قسطون-
في هذا الأحد، أحد الثالوث الأقدس، نتأمّلب سويّةً في مقطع من الفصل الأخير – الفصل الثامن والعشرين – من إنجيل القدّيس متّى حيث نجد أوّلاً رواية قيامة الربّ يسوع وظهوره على المرأتين (متى 28: 1-10) التين أمرهما قائلاً: “لا تَخَافَا! إِذْهَبَا وبَشِّرَا إِخْوَتي لِيَذْهَبُوا إِلى الـجَلِيْل، وهُنَاكَ يَرَونَنِي” (الآية 10).
يأتي هذا الظهور لرسله الأحد عشر (بعد إنتحار يهوذا) في الجليل تلبيةً لطلب الربّ وقد توقف القدّيس متى عند هذا الظهور لما فيه مِن أهمية للتوجيهات الأخيرة التي أعطاها الرب يسوع لجميع الرسل والتي تُلخّص غاية مجيئه للعالم وهي: “فَتَلْمِذُوا كُلَّ الأُمَم، وعَمِّدُوهُم بِإسْمِ الآبِ والإبْنِ والرُّوحِ القُدُس، وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ” (الآيات 19 و 20). وهي ذات التوجيهات التي كلّمهم بها قبل إرتفاعه إلى السماء بالقرب مِن بيت عنيا: الكرازة بإسم الرب يسوع المسيح لمغفرة الخطايا.
سنتأمّل اليوم في دعوتنا على ضوء هذه التوصيات، لنكون نحن أيضًا من رسل يسوع:
أ- “فَتَلْمِذُوا كُلَّ الأُمَم…”
أمرنا الربّ يسوع بتلمذة كلّ الأمم فما معنى هذا الكلام؟
أوّل معاني هذا الكلام هو أن نكون نحن أوّلاً من التلاميذ فمن لم يكن تلميذًا صالحًا في مدرسة الربّ يسوع ليس بمقدوره أن يكون أستاذًا صالحًا فيها!
فكيف لنا أن نُتلمذ الآخرين ونحن غالبًا ما نجهل أبسط الأمور في إيماننا وكثيرًا ما نؤدّي شهادات زورٍ عنه ويكفينا ما قاله في هذا الإطار المهاتما غاندي حين صرّح: “أحببت المسيح ولكنّي لم أستطع أن أحبّ المسيحيّين!”، وهو كان يقصد بالطبع التناقض ما بين سلوكيّاتهم وإيمانهم!
ثاني معاني هذا الكلام هو أنّ لا حدود للتلمذة: لا عرق ولا لون… ولكن لا يجدر بنا فهم التلمذة بمعنى تلقين الآخرين أصول ومبادئ الإيمان المسيحي بالقول فقط “بالدعوة إلى التوبة وبأن بإسم المسيح تُغفر الخطايا” بل الشهادة أمامهم لقيم هذا الإيمان كي لا ينطبق علينا قول السيّد المسيح عن الفرّيسيّين: ” فَإعْمَلُوا بِكُلِّ مَا يَقُولُونَهُ لَكُم وإحْفَظُوه، ولـكِنْ مِثْلَ أَعْمَالِهِم لا تَعْمَلُوا. فَهُم يَقُولُونَ ولا يَعْمَلُون” (متى 23: 3)!
ب- “…وعَمِّدُوهُم بِإسْمِ الآبِ والإبْنِ والرُّوحِ القُدُس”
هذا المقطع يتحدّث عن المعموديّة…
أوّل معاني هذا الكلام هو طبعًا مرتبطٌ بسرّ المعموديّة الّذي بمثابة “مفتاح الدّخول” إلى ممارسة الأسرار وحياة الإيمان فتدخل الكنيسة المعمّد إليها وتكلّف أهله وعرّابَيْه مرافقته في التنشئة المسيحيّة على دروب الحياة…
ثاني معانيه هو دعوة كلّ المسيحيّين إلى تجديد إيمانهم مع كلّ “معموديّة وتثبيت” وفي كلّ آن إلى تذكّر دورهم في “مسحنة” الخليقة كلّها وفي نشر بذور الدعوة إلى الإيمان بسرّ الثالوث الأقدس الّذي تتجلى من خلاله الأبعاد التالية للإله الواحد: محبّة وأبوّة الآب / تضامن الإبن مع ضعف البشر / تعزية الرّوح القدس للإنسان في كلّ الإختبارات والتجارب والضيقات
ت- “… وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ “
أوّل معاني هذا الكلام هو تذكيرنا بدورنا في نقل تعليم المسيح إلى كلّ محيطنا: الأقرب أوّلاً ثمّ الأبعد!
وهنا لا بدّ من السؤال: ماذا نعلّم الآخرين؟ ولنأخذ مثالاً من الحياة العائليّة ونطرح الأسئلة التالية: أين يتعلّم أولادنا أولى الشتائم؟ أين يسمعون للمرّة الأولى عبارة: “أنا لا أحبّ فلان…”؟ أين يسمعون أوّلاً أولى أطروحات ما ندعوه بالعاميّة: “تربيح المنيّة”؟! أين يتعلّمون التعصّب لفلان أو علتان من زعماء هذه الأرض على حساب محبّتهم للإله الواحد؟ أين يتعلّمون الأمثلة اللبنانيّة البغيضة: “معك قرش بتسوى قرش”، “الإيد لما فيك عليّا بوسا ودعي عليّا بالكسر”…؟ أين يتعلّمون أن للكذب ألوانًا؟!
ثاني معانيه هو أنّ المطلوب من المسيحيّ أن يعلّم أن حفظ الوصايا ليس فعلاً محدودًا بنصّ جامد بل هو أسلوب حياةٍ يترك لله مجالاً لزرع الخير في أقوالنا وأفعالنا وسط المجتمع فلا يكفي أن “لا نقتل” بالسلاح حين نقتل الآلاف يوميًّا باللّسان؛ ولا يعني إن ذهبنا إلى الكنيسة يوم الأحد أنّنا لا نعبد ربّين حيث في سائر أيّام الأسبوع نحن لا نتعب من السعي خلف القرش ولكن ننعس وننام مع أوّل أبانا أو سلام!
في أحد الثالوث الأقدس، السرّ الأعظم في ديانتنا المسيحيّة نصلّي ونحن في زمن العنصرة، زمن الروح القدس، إلى الآب السماوي أن يرسل روحه إلى قلوبنا ونفوسنا وعقولنا فينيرها لتصغي إلى صوت الابن المتجسد يسوع المسيح في صوت كلّ إنسان يكلّمنا ولننظر إلى صورة وجهه في وجه كلّ إنسان يلتقي بنا ولنبادر صوبه بالمحبّة كما بادر الآب فخلّصنا بابنه الفادي وأنعم علينا بروحه الّذي يتمّم فينا عمل الآب والابن، له المجد معهما، إلى أبد الآبدين، آمين.
Share via: