الخوري نسيم قسطون:
إنّه أحد الموتى المؤمنين، وهو الأحد الثالث من الآحاد الممهّدة لزمن الصوم.
في هذا الأحد، نتأمّل في موضوع الموت وما يرتبط به.
لا شّك في أنّ مناسبات الحزن أصبحت تشكّل الفرصة شبه الوحيدة المناسبة للقاء الناس مع بعضهم البعض، لدرجة أنّ الطابع الإجتماعيّ لها أصبح يغلب على بعدها الرّوحي بحيث أصبح تقديم واجب العزاء هو الأساس، على حساب المشاركة في الصلاة، كما يتبيّن للناظر من منظر الجماهير المحتشدة “خارج الكنيسة” تاركةً “الداخل” لأهل الفقيد وبعض “المجبورين” وقلّة من المصلّين.
لقد طغى على عاداتنا، في الحزن، طابع “الواجب الإجتماعي” لحتّى يمكننا القول، وبراحة ضمير، أنّ همّ معظم المحزونين هو الخروج بأقل درجة من الأضرار المعنويّة التي يسبّبها بعض المتربّصين بهم لتسجيل مواقف عليهم في أصعب أوقاتهم.
لذا، اليوم، نعود إلى جوهر المسألة وهو موقف النّاس تجاه الموت!
في هذا الإطار، ينقسم الناس إجمالاً إلى فئتين:
- من يمضون حياتهم خائفين من الموت لدرجة أن حياتهم تصبح أقرب إلى الموت منها إلى الحياة.
- ومن يعيشون حياتهم غير عابئين أو مهتمين بتحضير نفوسهم للحظة الإنتقال على مثال الغنيّ المذكور في إنجيل اليوم.
يوجد تقارب شديد، على مستوى القراءات والجوّ العام للإحتفال الليتورجي، بين هذا الأحد وتذكار الموتى المؤمنين، في الثاني من تشرين الثاني.
نتأمّل إذًا في مَثل الغنيّ ولَعازر (لوقا 16: 19-31)، في إطار ما يدعى في علم اللاهوت بالنهيويّات أي ما يتعلّق بحياة الإنسان بعد موت الجسد.
بدايةً، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في أيّام حياة الربّ يسوع المسيح على الأرض، كان المجتمع اليهوديّ منقسمًا حول مسألة الحياة ما بعد الموت ما بين رأي الصدوقيّين ورأي الفرّيسيّين:
- الصدوقيّون (كانوا من الأرستقراطيّين ومن الأغنياء. كان يأتي من بينهم إجمالاً رئيس الكهنة ورؤساء الكهنة وكانوا يشغلون أغلبية المقاعد في المجلس الحاكم)، أنكروا قيامة الأموات ووجود الحياة الأبديّة، وقالوا بأن النفس تهلك عند الموت كما أنكروا وجود الملائكة أو الشياطين.
- الفرّيسيّون (كانوا غالبًا من طبقة رجال الأعمال المتوسطة وأقرب إلى عامة الشعب) كانوا يؤمنون بقيامة الأموات وبالحياة بعد الموت، وبوجود ثواب وعقاب كما بوجود الملائكة والشياطين.
وكانت الأغلبيّة أقرب إلى رأي الفرّيسيّين نظرًا لرضى الشعب عليهم وهو ما يظهر في هذا المقطع من الإنجيل حيث يتبنّى المثل وجهة نظرهم لجهة التأكيد على الحياة ما بعد الموت ويهاجم عمليًّا الصدوقيّين بشخص الغني الّذي كان يتنعّم أثناء حياته ولكنّه إستحقّ العقاب ما بعد الموت.
في هذا رسالةٌ واضحة إلى مَن كانوا يُسيطرون على أغلبيّة الموارد السياسيّة والدينيّة والإقتصاديّة. دون أن يعني ذلك أنّ يسوع كان يهاجم الغِنى بحدّ ذاته كما يحلو للبعض تفسير أحداث هذا المثل، فهو هاجم الغنيّ لأنّه لم ينظر أبدًا إلى لَعازر الفقير وحاجاته وهي كانت بسيطة جدًّا لأنّ مَن كان يشتهي الفتات كان سيكتفي بالقليل القليل.
لم ينظر الغنيّ لا بل لم ينتبه كليًّا إلى وجود هذا الإنسان الّذي تدنّت قيمته لدرجة أضحى معها مأكلاً للكلاب!
هنا لبّ النصّ كلّه حيث يظهر بأنّ منطق الله يعاكس كليًّا منطق البشر. فمن كان محور الإهتمام في هذه الحياة أضحى مرذولاً في الآخرة ومن كان مهمّشًا في هذه الحياة إستحقّ مركز الصدارة. ولكن لماذا؟
الجواب يستنتج من الأسماء الواردة في النصّ. فبالطبع كان للغنيّ إسمٌ مشهورٌ ومعروفٌ من النّاس ولكنّ إسمه لم ينطبع في ذاكرة الحياة الأبديّة لأنّ ما صنع قيمته كان ما لديه وليس ما هو عليه، بينما لَعازر كانت قيمته في شخصه وليس فيما يملك وهو ما جعل إسمه يستمرّ إلى ما بعد الموت.
ما أراده الربّ يسوع من هذا المثل هو تنبيه السامعين إلى ضرورة تغيير نمطيّة تفكيرهم من خلال النّظر والتنبّه إلى قيمة الأشخاص أكثر من الإنبهار بقيمة الأشياء لأنّ ما يبقى للإنسان في الحياة الأبديّة هو ما عاشه من قيمٍ وأوّلها الرحمة والمحبّة للآخرين وخصوصًا المظلومين لأسبابٍ ماديّة أو إجتماعيّة.
فالسؤال الأساسيّ الموجّه إلينا اليوم هو: هل ننتبه إلى وجود “لَعازر” في مجتمعاتنا؟
فلَعازر هو كلّ شخصٍ محتاجٍ إلى التضامن والرحمة ليس على مستوى المادّة فحسب بل أيضًا على مستوى الحنان والعاطفة والمؤازرة في السرّاء والضرّاء.
ولَعازر أيضًا هو المحتاج إلى العيش بكرامة وليس فقط إلى الصدقة التي تفيده مرّة واحدة ربّما فيما يحوّله العمل إلى عنصر مفيدٍ لنفسه ولغيره فلو كان لَعازر عاملاً في قصر الغني لشبع كلاهما بدل أن يموت واحدٌ من التخمة والآخر من الجوع!
بهذا المعنى، كلّ واحدٍ منّا هو غنيّ بما يكفي والمطلوب منه أن يفتح قلبه على نور الله كي يرى “لَعازره” فيتحوّل من غنيّ بين الأغنياء إلى صاحب إسمٍ معروف في سجلّ الرحمة الإلهيّة!
مع الكنيسة، نخوض في هذا الأسبوع في غمار مسيرةٍ تأمليّة قوامها الإستعداد الوافي لملاقاة وجه الله بتوبةٍ وافيةٍ تؤهّلنا للسعادة الأبديّة. كما نتأمّل في حياتنا وفي مدى عيشنا للحياة كنعمةٍ وفرصةٍ لإستحقاق الخلاص لنا وللآخرين عبر:
- عيش الحياة بشغف وإستغلال كلّ لحظة منها كنعمةٍ مجانيّة من الله لنا.
- تحدّي الخوف بالرّجاء الّذي يزرعه فينا إيماننا بإلهٍ “غلب الموت بالموت ووهب الحياة للّذين في القبور” كما يقول نشيدٌ أورثوذوكسيٌّ بديع.
إعلان إيماننا بالقيامة بشجاعة في كلّ وقت وخاصّةً في لحظات إنتقال أحد الأحبّة “من الموت إلى الحياة” عبر تحويل اللقاء الأخير إلى وعد لقاء في بيت الآب السماوي حيث “المنازل كثيرة” (يو 14: 2)، وليس إلى وداعٍ بائس!
Share via: