الخوري نسيم قسطون
في الأحد الّذي يسبق مباشرةً عيد الميلاد، تدعونا الكنيسة للتأمّل في نسب يسوع بحسب القديس متى (1،1-17)
هل من المهمّ يا ترى أنّ نقرأ هذه السلسلة من الأسماء في كلّ سنة؟!
قد يعتبر البعض بأنّ هذا التعداد مملٌّ وقد يكون على حقّ إن كان لا يتمتّع بحسّ البحث عن الحقيقة أمام كلّ ما يعترض سبيله!
أمّا الباحث عن الحقّ فسيكتشف الغنى الرّوحيّ في هذا النصّ حين يدرك بأنّه شمل البشريّة جمعاء!
فكلّ إسمٍ واردٍ هنا يختصر جانباً من العلاقة مع الله ويشهد عن أسلوبٍ للسير في درب الربّ مهما تعدّدت الظروف الاجتماعيّة أو التاريخيّة أو الاقتصاديّة أو حتّى الرّوحيّة!
في الكتاب المقدّس، كلّ إسمٍ يحمل في ذاته دلالةً على الشخص أو على المهمّة المنتظرة منه.
لنحاول أوّلاً أن نفهم معاني الأسماء الواردة في هذا النصّ من خلال الجدول التالي:
فإذا استندنا إلى معاني الأسماء الواردة أعلاه باللغة العبريّة يتكوّن لدينا، مع بعض التصرّف، النصٌّ التّالي:
والدٌ مجيد، والدٌ لجمعٍ كثير، يضحك مع نجاحه في خداع عدوه.
أميرٌ صالحٌ يرى الله! يحارب بقوّة وينضم إلى جماعة، إلى الشعب المجيد الذي أنقذه، الغريب في أرض غريبة، والأسرى أنقذهم الله !… هو الّذي يحمد الرب، يفتح الطريق إلى مكان آمن يحيط به جدار مرتفع.
يا شعبي الذين ينتمون إلى الأمير، هو نبيٌ لابسٌ القوّة ، ويخدم (الرب)، إنّه هنا! بدافع الحب، هذا الحبيب دفع الثمن من أجل السلام لكيّ يحرّر الشعب.
والدي هو الرب، وهو الشّافي الّذي يحاكم ومن ثمّ يقيم. لقد استولى الربّ عليّ والرب هو قوي! عظيم هو الرب! قوّتي ومعونتي من الرب! الرب كامل! أخذت من قوة الرب وجعلني أنسى بؤسي.
حقا، (أنا) السيّد المنشئ (أو الأساسي( الّذي شفاه الربّ، الذي أقامه الرب، والذي يؤيّده الرب، وأيّده وسوف يؤيّده! لقد سألت الله عمّن فداهم الربّ، المولودين في بابل.
والدي هو رهيب! الله سوف يقيم مساعداً عادلاً ويقيمه الربّ! الله هو ثَنائي! وهو الذي يساعد. لتزداد هبة يعقوب من العظمة، لأن الله معنا!
هذا النًصّ يظهر لنا حجم عناية الله بالإنسان فحتّى في تسلسل أسماء أسلاف يسوع، يتوضّح تدرجيًّا قصد الله الخلاصيّ للإنسان ولكلّ إنسان…
فهذه الأسماء فيها الغنيّ والفقير، الحاكم والمحكوم، الخاطئ والبارّ، الرّجل والمرأة… لأنّ الربّ لا يميّز ولا يحابي الوجوه ولا يتأثّر بمعاييرنا لتصنيف وتقييم البشر…
هذا التنوّع والتّعدّد يُبيّن لنا شموليّة رسالة الربّ يسوع التي تتوجّه إلى كلّ الناس وليس إلى شعبٍ محدّد أو فئةٍ محدّدة…
من مشاكل مجتمعنا الحكم على النّاس على ضوء سيرة أسلافهم…
يُبيّن لنا نصّ اليوم أنّ من أراد تحقيق إرادة الربّ قادرٌ على تغيير تاريخه وتاريخ من سبقوه والدليل: يسوع!
إنطلاقاً من كلّ ما سبق، يطرح نصّ اليوم سؤالين: لاهوتي وحياتي.
السؤال اللاهوتي: من هو يسوع بالنسبة لنا؟
أهو “ابن النجار” كما زعم أهل الناصرة (مت 56،13) ؟ أو هو “المسيح ابن الله الحيّ” (16،16) كما اعترف بطرس ؟ أو ببساطةٍ علينا أن “ننتظر آخر” (3،11) كما يفعل اليهود حتى أيامنا؟
إنجيل اليوم يقدّم لنا يسوع كإنسان حقّ “وُلِدَ” من أمّ بشريّة، وله نسبٌ واقعيٌ فيه طبقات وأجناس وشعوب متعددة: رعاة (ابراهيم،اسحق…)، عمال (يوسف النجار…)، ملوك (داود، سليمان…)، رجال ونساء (أربعة منهنّ غير يهوديات) رغم عدم ذكرهنّ بالإجمال في الأنساب في تلك الحقبة، أبرار (ابراهيم، يوسف…) و خطأة (راحاب، امرأة أوريا…)، …
باختصار، يسوع هو “ابن الانسان” (3،24) ب “أل” التعريف، أي انه إنسانٌ عاش ملء إنسانيته” في كلّ شيء” (عب 7،2) لدرجة انه “خضع مثلنا لكلّ تجربة ما عدا الخطيئة” (عب 15،4) التي لم تدخل في تكوين الإنسان عند خلقه، بل يوم استسلم للمجرِّب بشخص آدم وحواء. وهو أيضاً المسيح الذي انتصر على التجربة والخطيئة فحقّق بتجسّده ملء “صورة الله ومثاله” (تك 26،1).
لا بدّ هنا من الإشارة أنّ توقّف السلسلة عند يسوع يشكّل دليلاً على خلقٍ جديدٍ للإنسان. فآدم الأول كان إنساناً مخلوقاً أعطى الكون نسلاً جسدياً، سادته المعصيّة. أما المسيح فهو أوّلاً “ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور …غير المخلوق” لأنه “مساوٍ للآب في الجوهر” (قانون الإيمان)، الذي “…لمّا تمّ ملء الزمن..” (غل4،4) تجسّد بالروح القدس من مريم العذراء “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا”. بهذا أقام المسيح نسلاً جديداً للإنسانية، نسلاً روحياً ، حيث “مولود الجسد” يصبح “مولوداً للروح” (يو 3)، “…لا على أساس نسب بشري، بل بقوّة حياةٍ لا تزول…” (عب 16،7) ، هي وحدها تقهر الخطيئة وتعيد للإنسان بهاء “صورة الله ومثاله”.
هذا هو جواب الكنيسة على السؤال. ويبقى أن نجيب نحن على سؤال يسوع: “ومن أنا في رأيكم أنتم ؟” (مت15،16).
السؤال الحياتي: هل نحن من نسل يسوع المسيح الروحي ؟
قال يسوع: من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي” (مت 50،12) ونصحنا “يكفي التلميذ أن يكون مثل معلّمه” (25،10) كطريقة عمليّة لتطبيق ذلك.
لم يتنكّر يسوع للماضي أو لمن سبقوه: “ما جئت لأبطل بل لأكمل” (17،5)، بل كان مثالاً لطاعة الأهل (لو 51،2) ولاحترام “كلّ ما تفرضه شريعة الربّ” (لو 39،2). بينما نجد اليوم كثيراً منّا يقطعون روابطاً أساسيّة بالماضي (الأهل، التقاليد، الانتماء الكنسيّ…) بحجّة التطوّر أو لأسباب مادية أو…
لكن يسوع نفسه هاجم ديانة المظاهر و”الواجبات” (مر 13،7) التي تغرق في “حَرْف” الممارسة الدينية متناسية “روحها” التي تتخطّى الزمن. وكم وكم منّا اليوم يكتفون بدروس قربانتهم الأولى كمعيار أبدي لسلوكيّاتهم المسيحيّة، فيغدون كباراً في حياةٍ يحبون فيها حبو الأطفال في التشبّه بالمسيح. هذا ينطبق أيضاً على من يرفضون الحاضر والتطوّر باسم “تصوراتهم” التي جعلوها عقائداً فيغرقون في التحسّر على الماضي الذي لن يعود (“على إيامنا كان…”).
من جهة أخرى حذّر يسوع من الهوس بالمستقبل: “لا يهمكم أمر الغد” (مت 34،6). رغم ذلك منّا من لا يبدأ نهاره دون “أبراج اليوم” ومنّا من رجاؤه مال غَدِهِ، كالغني الجاهل (لو 13،12-21).
فمن أي فئة نحن ؟
ليست الأسماء بحدّ ذاتها هي المهمّة، بل أن نفهم دعوتنا إلى التشبّه بالربّ الّذي طوّر مسيرة القدّيسين ممّن سبقوه وأصلح أخطاء الماضي ومهّد لمستقبلٍ أفضل لنا ولكلّ من سيأتي خلفنا من النّاس.
فهل نحن على قدر هذه المهمة؟!
Share via:
