أحد شفاء المنزوفة

You are currently viewing أحد شفاء المنزوفة

الخوري نسيم قسطون:

في إنجيل الأحد الثالث من زمن الصوم (لوقا 8: 40-56)، يتقاطع شفاءان يحملان في طياتهما دعوةً عميقةً لإعادة اكتشاف معنى الإيمان وتجديد العلاقة بالله. ففيما يُسرع يائيرس، رئيس المجمع، إلى يسوع طالبًا إنقاذ ابنته المحتضرة، تتسلل امرأة منزوفة بين الحشود لتلمس هدب ثوبه علّها تُشفى من مرض استمر اثني عشر عامًا. هذان المشهدان، وإن اختلف ظاهرهما، يلتقيان في جوهرٍ واحد: كسر الحواجز بين الإنسان والله، وتجاوز الخوف من الموت إلى الثقة بالحياة التي يمنحها الإيمان.

 

اللافت في النص أن كل شخصيّاته تنتظر يسوع، لكن باختلاف النيات والأهداف. هناك من يراقبه ليصطاد أخطاءً، كالفريسيين والكتبة، بينما يُقبل آخرون بقلبٍ خاشع:

  • يائيرس، رئيس المجمع اليهودي، سجد ليسوع طالبًا شفاء ابنته. هذا السجود ليس مجرد فعل عابر، بل هو اعتراف صريح بألوهية المسيح. فهو، كرئيس مجمع، يعلم جيدًا أن السجود لا يُقدم إلا لله.
  • المرأة المنزوفة، التي لم تتردد في لمس الرب رغم نجاستها الاجتماعية، فأظهرت إيمانًا عظيمًا بمجرد اعتقادها أن لمسها لثوب يسوع سيشفيها. إيمانها لم يكن مجرد أمل عابر، بل كان يقينًا راسخًا بقدرة الرب على تغيير مصيرها.

 

هنا يبرز السؤال المُلحّ: ماذا نريد من يسوع؟ هل نريده إلهًا يُحقق مطالبنا أم نورًا يُعيد توجيه حياتنا؟ فالمرأة لم تطلب معجزة فحسب، بل اعترفت بسلطان يسوع قبل أن تلمسه، ورئيس المجمع لم يُنكر حاجته رغم مكانته الدينية. كلاهما نموذج للإيمان الذي لا يُخفي ضعفه، بل يُقدمه مُحرّكًا للعلاقة مع الله.

 

في هذا السياق، تُقدّم القصتان رمزيةً عميقةً لعهدين: المرأة المنزوفة، التي نضبت قواها الروحية كشعب العهد القديم، والفتاة التي أُقيمت من الموت ككنيسة العهد الجديد. فكما أعاد يسوع الحياة للصبية بعد أن أعلنوا موتها، يُحيي الإيمان القلوب التي تُعلن “موتها” الروحي بفعل البعد عن الله. والمرأة التي “نزفت” طويلاً تُذكّرنا بأن الجفاف الروحي لا يُصيبنا فجأة، بل يتسلل عبر أيامٍ من الصلاة الباردة والتعلق السطحي بالطقوس. فهل نعتبر الصوم أو المناسبات الدينية مُجرد فترات موسمية للاقتراب من الله، بينما ننسى أن الإيمان رباطٌ يوميٌّ يتطلب الوعي الدائم بحاجتنا إلى نعمته؟

 

في حياتنا، نعاني جميعًا من نزيف روحي أو عاطفي. قد لا يكون مرئيًا، لكنه يؤثر فينا بعمق. جراح الماضي، الإحباطات، الخيبات، كلها تترك أثرًا في نفوسنا. لكن النص يؤكد أن شفاء هذه الجراح ليس مستحيلًا. الشرط الوحيد هو الالتجاء إلى الله، الطبيب الوحيد القادر على تضميد جراحنا وإعادة إلينا الحياة.

 

التحدي الأكبر، كما يُظهر النص، هو أن نكون مُستعدين للقاء الله حتى في أحلك اللحظات. فالمرأة لم تنتظر الشفاء الكامل لتلمس الرب، بل آمنت بأن مجرد الاقتراب منه سيُغير مصيرها. وبالفعل، لم يُشفَ جسدها فحسب، بل استعادت كرامتها الاجتماعية عندما ناداها يسوع “ابنتي”. هذا التفصيل يُذكّرنا بأن الشفاء الحقيقي لا يقتصر على الجسد أو الظروف، بل يمسّ الهوية: فعندما نُسلّم خطايانا وآلامنا لله، نُصبح أبناءً يُلامسون الحياة بروحٍ جديدة. أما يائيرس، فكان عليه أن يتخطى خوفه من الموت ليُدرك أن يسوع قادرٌ على إحياء من “ماتوا” في عيون الناس.

 

في زمن الصوم، يدعونا الإنجيل إلى كسر الحواجز التي نبنيها بيننا وبين الله: حواجز الخوف من الضعف، أو الخجل من الاعتراف بالحاجة، أو حتى الاعتقاد بأننا لسنا مُستعدين كفايةً للصلاة. فالمرأة لم تكن “جاهزة” بالمعنى المثالي، لكن إيمانها تجاوز المظاهر، ومدّ يدها نحو الرب رغم كل العقبات. وعندما سألها يسوع: “من لمسني؟”، لم يكن جاهلاً بهويتها، بل أراد أن يمنحها فرصة الاعتراف علانيةً بعمل نعمته فيها، لتصير شاهدةً على أن التوبة ليست موتًا للذات، بل ولادةً لحياةٍ جديدة.

 

ختامًا، نحن مدعوون اليوم إلى أن نكون كلا المريضتين: أن نُسلّم خوفنا من الموت، ونزفنا الروحي، ونداءات قلوبنا إلى الطبيب الوحيد القادر على شفاء ما أفسدته الأيام. فليس المهم أن نكون أقوياء أو كاملين، بل أن نكون صادقين في طلب وجه الله، حتى لو اضطررنا للزحف بين الحشود لنلمس هدب إحسانه. ففي لحظة اللقاء، يتبدد كل خوف، ويُرفع كل عار، ويُصبح الموت مُجرد مرحلة عابرة في مسيرة الحياة مع الرب.

اترك تعليقاً