الخوري نسيم قسطون:
في مطلع زمن الصّوم، تتأمّل الكنيسة في نصّ عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-11)، الغنيّ بالعبر لمَن يريد أن يستفيد من مسيرة الصوم كي يغتني بالله!
قد يستغرب البعض الربط بين العرس والصّوم وهم محقون في ذلك إن كانوا ممّن يربطون الصوم بالحزن أو بالحرمان…
بينما من يدرك بأنّ الصوم هو فرصةٌ للتفرّغ لما هو أسمى وأهمّ من القوت الماديّ وبأنّه آلية تفريغٍ للذات من كلّ ما يبعدها عن الله وتقنيّةٌ روحانيّة تحضّرنا لملء الفراغات داخلنا من الله، سيعلم جيّداً لما تمّ اختيار هذا النصّ…
المعضلة في النصّ هي في نقص الخمر أي من الجانب البشريّ بينما نجد الحلّ يأتي من الجانب الإلهيّ.
يُشكِّل الصوم فرصةً لكلٍّ منّا كي يميّز النقص الّذي فيه لجهة ما يؤمِّن له السعادة إذ يرمز الخمر إلى ما يمنح البشر السّعادة المؤقّتة في مناسباتهم السعيدة عادةً أو ما ينسي البعض، مؤقّتاً، همومهم الكثيرة… الخمر يبدو، في هذه الحالة، كالمخدّر أو كدواء الأعصاب، يصلح لمدّة أو لفترة، دون أن يعالج المشكلة في العمق!
يرمز نقص الخمر إذاً إلى إفتقاد البشريّة إلى السعادة الحقيقيّة والسلام الدّاخليين النّابعين غير الممكنين خارجًا عن الله ومحبّة الله…
لذا نجد “عائلة الله” تتدخّل لتوجد الحلّ فمريم تأمر الخدم بإطاعة الربّ فيما الربّ يعطي الخمر الّذي سيسمح بإستكمال الفرح البشريّ النّاقص بخمر فرح لا يزول ولا ينقص فنعمة الله لا تنضب ولا تنقص ولا تعتق والأهمّ: لا تُستبدل!
زمن الصوم ليس إذاً زمن حرمانٍ لمن يحياه بعمق بل هو زمن امتلاءٍ بالله بدل الماديّات الزّائلة وزمن مشاركة مع كلّ من سيشعر بحضور الله من خلال محبّتنا أو صلاتنا أو صدقتنا!
في هذا الزمن، نبحث عن وجه الله فيما نبعد عن دربنا كلّ ما يسلب عقولنا أو قلوبنا أو يلهيها عن تأمّل وجه الله في كتابنا المقدّس أو في القربان أو في وجه الجائع أو الشريد أو المريض أو السجين أو المحروم…
اليوم، نتأمّل في حقيقتين أساسيّتين توجّهان حياتنا خلال هذا الزمن المبارك:
- أولى هذه الحقائق هي أن نفعل كّل ما يأمرنا به يسوع كي يكون لصومنا معنىً وقيمة… فالصوم، وإن تضّمن مجموعة من الشّرائع والقوانين، فهو زمن استعادة علاقةٍ سليمةٍ مع الربّ إنطلاقاً من تعمّقنا لفهم مشيئته وإرادته القدّوسة كما عبّر عنها في الإنجيل وفي تقاليد الكنيسة وتعاليمها!
- الحقيقة الثانية هي أنّ الصوم زمنٌ يقودنا إلى الفرح الحقيقي عبر التخلّي عن مصادر الفرح المؤقّتة والتغذّي من مصادر الفرح الدّائم وهي الصوم والصّلاة والصدقة والتي تقودنا إلى الله (الصلاة) وإلى القريب (الصدقة) عن طريق الصّوم الّذي يشكلّ الوسيلة النّاجعة لتحويل ما نملك إلى مصدر للخير ولتزويد الرّوح بالقوت الباقي للحياة الأبديّة!
في هذا الأحد، سنحتفل جميعًا بالمرفع أي سنتشارك بأطعمةٍ سنمتنع عنها خلال زمن الصوم…
ولكن، علينا أيضاً:
- أن نرفع عنّا كلّ ما يغذّي أنانيّتنا وكلّ ما يبعدنا عن النّاس وبالتالي عن الله…
- وأن نرفع لساننا وقلبنا وفكرنا وجسدنا نحو الاتّحاد بالله…
فإلى صومٍ مبارك وامتلاءٍ بالله ومن الله!
Share via:
