منذ بدء الخليقة، وُضعت نعمة الحياة في قلب مخطط الله الخالق، حيث دعا الإنسان ليكون شريكًا في خلق الحياة واستمراريتها. كل ولادة جديدة هي شهادة حيّة على عمل الله في العالم، وتذكير بأن الحب والحنان هما جوهر علاقتنا به.
يوحنا المعمدان، ابن زكريا وأليصابات، كان مثالاً بارزًا على هذا التدبير الإلهي (1: 57-66). فرغم تقدّم العمر والعقم، منح الله هذا الثنائي هبة الحياة، فأظهر قوته وحنانه، مؤكدًا أن المستحيل يصبح ممكنًا حين نتكل عليه بإيمان صادق.
لكن في عصرنا الحالي، يبدو أن مشاعر الفرح التي كانت ترافق ولادة الأطفال قد تضاءلت، أو على الأقل باتت تخضع لمقاييس مادية ومعايير اجتماعية غريبة عن جوهر الرسالة الإلهية. إنجاب طفل لم يعد يُنظر إليه كنعمة غير مشروطة، بل كعبء يُقاس بميزانية الأسرة أو ظروفها الاقتصادية. يُسهم هذا التحوّل في تعزيز ثقافة الأنانية والفردية، حيث تسود الأولويات الشخصية والرغبة في الرفاهية على حساب دعوة الله للحياة.
هل كان أسلافنا في ظروف أفضل؟ بالطبع لا. عاشوا في بيئات بسيطة وأحيانًا قاسية، ومع ذلك أدركوا قيمة الحياة واستثمروا فيها. كانوا يعلمون أن السعادة ليست بالضرورة مرتبطة بكمية الممتلكات أو مستوى الرفاهية، بل بما نحمله من قيم وما نغرسه في نفوس أبنائنا. في الماضي، كان عدد كبير من الأبناء في العائلة يُنظر إليه كبركة، بينما الآن أصبح ينظر إليه كمسؤولية مرهقة.
إن التفكير المادي الذي يهيمن على العديد من قراراتنا العائلية يحرمنا أحيانًا من التمتع بالفرح الحقيقي الذي تمنحه العائلة الكبيرة. كيف يمكننا أن نقيس قيمة الإنسان بالممتلكات التي يملكها أو يوفرها لأولاده؟ إذا كان شغلنا الشاغل هو تأمين الشقق والسيارات لهم، فهل نغفل عن أهمية تأمين التربية السليمة والحب والوقت الكافي لمشاركتهم الحياة؟ كثير من الآباء يكدّون لجمع المال، بينما ينشأ أبناؤهم بعيدين عنهم، مفتقدين الدعم العاطفي والروحي.
التحدي الأكبر يكمن في إعادة ترتيب أولوياتنا كأفراد ومجتمعات. نحن بحاجة إلى التفكير بعمق في القيم التي نغرسها في أبنائنا، وكيف نساهم في خلق عالم يعكس محبة الله وحنانه. ليس المطلوب أن نتخلى عن الطموحات أو السعي لتحقيق الأفضل لأطفالنا، بل أن نوازن بين ما هو ضروري وما هو كمالي. يجب أن نطرح على أنفسنا أسئلة جوهرية: هل تساهم قراراتنا اليومية في بناء عائلات متماسكة؟ هل نساعد أطفالنا على فهم أن الحياة هي هبة لا تُقدّر بثمن؟
الوقت “المثالي” لإنجاب طفل ليس محصورًا بظروف مادية معينة، بل بالقدرة على الاستجابة لدعوة الله بثقة وتسليم. عندما نستجيب لهذه الدعوة، نُفتح على بركات لا تعدّ ولا تُحصى. الله يهبنا النعم، ولكنه يطلب منا أن نكون أمناء في استخدامها وأن نوظفها في خدمة الحياة. كل حياة جديدة هي فرصة للتجدد والفرح، وفرصة لتمجيد الله الذي أودع فينا روح الخلق والمحبة.
كما أن المسؤولية تجاه الأطفال لا تتوقف عند تأمين احتياجاتهم المادية، بل تتعداها إلى بناء شخصياتهم وزرع القيم الأخلاقية والروحية في نفوسهم. يوحنا المعمدان لم يكن مجرد طفل عادي، بل كان له دور أساسي في خطة الخلاص. هو مثال على أن كل طفل يأتي إلى العالم يحمل رسالة خاصة به، ويستحق أن يُعطى الفرصة ليعيش هذه الرسالة بالكامل.
إذا أردنا أن نعيش الإنجيل حقًا، فعلينا أن نتبنى نمط حياة يعكس إيماننا بالحياة وقيمها. هذا يعني أن نواجه تحدياتنا اليومية بثقة بالله، وأن نتخذ قرارات تعكس محبتنا له وللحياة التي منحها لنا. عندما نتوقف عن قياس كل شيء بالمقاييس المادية ونتجه نحو رؤية شاملة للحياة، سنجد الفرح الحقيقي في العطاء وفي الشركة مع الله ومع الآخرين.
المجتمع الذي يعيد اكتشاف قيمة الحياة سيشهد تغيرًا عميقًا في علاقاته وتوجهاته. لن تكون الحياة العائلية عبئًا، بل نعمة. لن يُنظر إلى الأطفال كأرقام أو مسؤوليات، بل كفرصة للنمو الروحي والإنساني. نحن مدعوون لنبني عائلات تعكس حب الله، عائلات قادرة على مواجهة التحديات بروح الإيمان والأمل.
الرسالة التي يحملها لنا ميلاد يوحنا المعمدان هي أن الله دائمًا قريب، يحنو علينا ويباركنا. علينا أن نكون شهودًا لهذه المحبة، ليس فقط بكلماتنا، بل أيضًا بأفعالنا وبما نزرعه في الأجيال القادمة. حينها فقط نستطيع أن نقول إننا حققنا دعوة الله لنا بأن ننمو ونكثر ونملأ الأرض بحبّه ونوره.