الخوري نسيم قسطون:
ها هو الطفل يسوع، بسنّ الثانية عشرة، يدخل الهيكل مع والديه (لوقا 2\41-52)، ليس كزائر عاديّ، بل كمن ينطلق في مسيرة جديدة نحو استيعاب الشريعة والتفاعل مع أسرارها. في هذا المشهد، يبرز يسوع كمعلّم وسط المعلّمين، وكأنّه يذكّرنا بأنّ الحكمة ليست في النصوص فحسب، بل في الروح التي تنفخ فيها الحياة. فمن هو مصدر الشريعة إلّا الذي يقف أمامهم الآن؟ ومن هو أعظم من الهيكل سوى ربّه؟
هذا الحدث يدعونا للتأمّل في علاقتنا الشخصيّة مع الله ومع الكنيسة. نحن مدعوّون للعودة إلى المنابع الأصيلة، حيث الكتاب المقدّس يضيء دربنا وحيث الهيكل يحتضن قلوبنا التائهة. كم مرّة فضّلنا الابتعاد عن هذه المناهل، متذرّعين بأعذار واهية؟ كم من مرّة اخترنا النوم على التسبيح، والانشغال بهموم العالم على التفاعل مع سرّ الله الحيّ في القربان؟
الكنيسة ليست مجرّد بناء أو طقس، بل هي بيت، هي العائلة التي وُلدنا فيها بالإيمان. ومع ذلك، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان نضعها على الهامش، متأثّرين بالظروف أو حتى بضعف الأشخاص فيها. لكن هل نعي أنّنا حين نبتعد، لا نخسر الكنيسة بل نخسر أنفسنا؟ كما يقول القديس بولس، فصل العضو عن الجسد يؤدّي إلى موته، لا إلى موت الجسد. فالكنيسة باقية، لأنّها تأسّست على صخرة المسيح، ولكننا نحن من نضعف ونموت روحيًا عندما نبتعد عنها.
عائلة الناصرة تلهمنا، ليس فقط بالتزامها بالعبادة، بل بكونها نموذجًا للعائلة المسيحيّة الحيّة. عائلة تسير معًا إلى الله، رغم كلّ الصعوبات والمشقّات. في ذلك الالتزام نجد دعوة واضحة لنا لإعادة النظر في أولويّاتنا. كيف يمكن لعائلاتنا أن تزهر بالإيمان إن لم نجعل المسيح في قلبها؟ وكيف يمكن لأولادنا أن ينشؤوا على المحبّة والسلام إن لم نربّهم في بيئة تُشعّ بالإيمان والتقوى؟
الربّ يدعونا اليوم إلى إعادة اكتشاف الأحد، لا كيوم راحة فحسب، بل كيوم للربّ. فكم من مرّة جعلنا هذا اليوم مجرّد وقتٍ للراحة الجسديّة، متناسين غذاء الروح؟ القدّاس ليس عادة، بل لقاء حيّ مع الله. هو المكان الذي تتجدّد فيه علاقتنا بالمسيح، بالكلمة والقربان، فتتحوّل حياتنا من عاديّة إلى مقدّسة.
لنتأمّل أخيرًا في إلتزام يوسف ومريم. مع أنّهما عاشا مع يسوع، ومع أنّ الله كان في وسطهما، لم يتخلّيا عن زيارة الهيكل والالتزام بتقاليد العبادة. كان بإمكانهما تبرير ترك هذه التقاليد، بحجّة أنّهما يعيشان مع الله مباشرة. لكنّهما اختارا أن يكونا قدوة لنا، مظهرين لنا أنّ العلاقة مع الله تتطلّب التزامًا فعليًا، يتجاوز الراحة الشخصيّة وينطلق نحو الأمانة في العبادة.
اليوم، نحن مدعوّون إلى هذه العودة. عودة إلى الله، إلى الكنيسة، إلى عائلاتنا ككنائس صغيرة. لنُحيي فيها روح الإيمان، ولنُعلّم أبناءنا أنّ الكنيسة ليست فقط مكانًا نزوره، بل بيتًا نعيش فيه. ومع هذه العودة، تزهر حياتنا بالإيمان، وتتجدّد عائلاتنا بالمحبّة، وتزدهر الكنيسة بثمر القداسة، آمين.