أطلب الوحدة هارباً من الناس

جبران خليل جبران-
 
لا يا أخي لم أطلب الوحدة للصلاة والتقشف بل طلبتها هارباً من الناس وشرائعهم وتعاليمهم وتقاليدهم وأفكارهم وضجتهم وعويلهم.
طلبت الوحدة لكي لا أرى أوجه الرجال الذين يبيعون نفوسهم ليشتروا بأثمانها ما كان دون نفوسهم قدراً وشرفاً.
 
طلبت الإنفراد لكي لا ألتقي النساء اللواتي يسرنَ ممدودات الأعناق غامزات العيون وعلى ثغورهن ألف ابتسامة وفي أعماق قلوبهن غرض واحد.
طلبت الإنفراد لكي لا أجالس ذوي نصف المعرفة الذين يبصرون في المنام خيال العلم فيتخيلون أنهم أصبحوا من المدارك بمقام النقطة من الدائرة. ويرون في اليقظة أحد أشباح الحقيقة فيتوهمون أنهم قد امتلكوا جوهرها الكامل المطلق.
 
طلبت الخلوة لأنني مللت مجاملة الخشن الذي يظن اللطف ضرباً من الضعف، والتساهل نوعاً من الجبانة، والترفع شكلاً من الكبرياء.
طلبت الخلوة لأن نفسي تعبت من معاشرة المتمولين يظنون أن الشموس والأقمار والكواكب لا تطلع إلا من خزائنهم ولا تغيب إلا من جيوبهم، ومن الساسة الذين يتلاعبون بأماني الأمم وهم يذرون في عيونها الغبار الذهبي ويملأون آذانها برنين الألفاظ، ومن الكهان الذين يعظون الناس بما لا يتعظون به ويطلبون منهم ما لا يطلبونه من نفوسهم. . .
 
طلبت الوحدة والانفراد لأنني لم أحصل على شيء من يد بشري إلا بعد أن دفعت ثمنه من قلبي.
طلبت الوحدة والانفراد لأنني سئمت ذلك البناء العظيم الهائل المدعو حضارة، ذلك البناء الدقيق الصنع والهندسة القائم فوق رابية من الجماجم البشرية.
طلبت الوحدة لأن في الوحدة حياة للروح والفكر والقلب والجسد.
طلبت البرية الخالية لأن فيها نور الشمس ورائحة الأزهار وأنغام السواقي.
 
طلبت الجبال لأن فيها يقظة الربيع وأشواق الصيف وأغاني الخريف وعزم الشتاء. جئت إلى هذه الصومعة المنفردة لأنني أريد معرفة أسرار الأرض والدنو من عرش الله.

اترك تعليقاً