الخوري نسيم قسطون:
يسأل السيد اليوم: “ماذا تريدان أن أصنع لكما؟” (مر 10/ 35-45). إنه سؤال يخترق الزمن ليصل إلى القلب البشري في كل عصر. هذا الاستفهام ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو دعوة للغوص في أعماق الذات، لاستجلاء حقيقة الرغبات التي تتحكم بمسيرة الحياة. فهل نطلب المجد الزائل، أم السلطة الفارغة، أم الغنى الذي لا يشبع؟ الإجابة على هذا السؤال ليست ترفاً فكرياً، بل هي البوصلة التي تحدد المصير.
كثيراً ما نرفع صلواتنا بلهفة، طالبين ما نظن أنه خير لنا، لكن قلوبنا قد تكون بعيدة عن حكمة السماء. ألا نطلب أحياناً، بجهالة، حجراً بدل الخبث، أو حية بدل السمكة؟ ألا نصرّ على مطالب تكون في حقيقتها وبالاً علينا؟ الصلاة الحقيقية تتطلب وعياً عميقاً، وثقة بأن العليم بما يصلحنا سيعطينا ما ينفعنا، حتى لو بدا في لحظتها غير ما نتمنى.
وفي خضم هذا السعي المحموم وراء المكاسب الدنيوية، يقدم الإنجيل تصوراً مغايراً تماماً للعظمة: “من أراد أن يكون فيكم عظيماً، فليكن لكم خادماً”. إنها مقولة تزلزل أسس المنطق البشري القائم على التسلط والتفوق. ففي مجتمع يغرق في تفخيم الذات، ويقدس الكبرياء، ويغذي النميمة والغيرة، يصبح هذا المبدأ ثورة حقيقية. إنه يدعونا إلى استعادة الهوية المسيحية الأصيلة، المتجذرة في التواضع والمحبة والمغفرة. فالبعد عن هذا المنطق هو بعد عن جوهر الإيمان.
يطمح الإنسان بطبيعته إلى الارتقاء، سواء على السلم الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. والطموح بحد ذاته ليس رذيلة، بل هو محرك للإنجاز. لكن الخطر يكمن عندما يتحول هذا الطموح إلى جشع أناني، يسحق القيم ويستغل الحاجة ويغتال المجانية في العطاء. كم من الخدمات الإنسانية تحولت إلى وسيلة للاستغلال والتلميع! وكم من المناصب التي وجدت لخدمة الصالح العام تحولت إلى أداة للتميز الشخصي!
في مواجهة هذا الانحراف، يقدم المسيح نفسه نموذجاً: “لم يأت ليُخدم، بل ليخدم”. الخدمة في مفهومه هي فعل محض، نابع من المحبة المجانية التي لا تنتظر مقابلاً، والتي لا تشترط شروطاً. إنها العطاء الذي لا يستعبد الآخر، بل يحرره. إن التشبه بهذا النموذج هو التحدي الأكبر للمسيحي. فهو يدعونا إلى تحويل مركزية حياتنا من “الأنا” المتضخمة إلى “الآخر” المحتاج، ليس بدافع المصلحة أو التبادل، بل بدافع المحبة التي تستمد قوتها من محبة الله غير المشروطة.
إنها دعوة إلى الواقعية، بعيداً عن العاطفية أو الأحلام الوردية. الإيمان ليس هروباً من واقع الحياة بضيقاته وهمومه، بل هو يقظة روحية تبحث عن حضور الله وسط العواصف. إن مشكلتنا الكبرى تكمن في أننا، مثل التلاميذ أنفسهم، نرافق المسيح ولكننا نبقى منشغلين بهمومنا الخاصة، طامحين لمكانة في مجده متناسين أن الطريق إلى المجد يمر حتماً عبر خدمة الصليب.
في النهاية، ليست العظمة في كم نمتلك أو كم نتحكم، بل في كم نعطي وكم نحب. ليست القيمة في الارتفاع فوق الآخرين، بل في الانحناء لرفعهم. هذا هو قلب الإنجيل: أن نجد ذواتنا لا بالتمسك بها، بل بمنحها.
