الأحد التاسع من زمن العنصرة

بقلم الخوري نسيم قسطون – 

ما فاجأ معظم معاصري الربّ يسوع هو الأولويّة التي أعطاها في أثناء حياته
وفي كلّ ما قام به لفئاتٍ كانت تعتبر مهمّشةً أو مرذوله كالفقراء والمشرّدين
والمساكين، والأسرى، والمقهورين، والمرضى!
إعتاد الناس على جوّ طبقيّ، تكون فيه الأهميّة للأقدر أو الأقوى على حساب
الأضعف فأتى الربّ يسوع ليجري إنقلابًا في مفاهيم مجتمعه وطبعًا في
مفاهيم البشريّة كلّها حتى زماننا الحاضر.
في مقطَع الإنجيل لهذا الأحد التّاسع من زمن العنصرة، نتأمّل في تحقّق نبوءة
آشعيا في شخص يسوع المسيح، وسنفحص ضمائرنا على أساسها لنرى كم
تنطبق علينا تسمية مسيحيّين وكم نشارك المسيح اليوم في حمل عبء
البشارة:

 "رُوحُ الرَّبِّ علَيَّ"

لقد مُنِحنا جميعًا الرّوح القدس يوم عمادنا وثَبُتَت فينا نعمته يوم تثبيتنا
كرصيد روحيّ مُنِحَ لنا مجّانًا كوزنةٍ – أمانةٍ، سنؤدّي عنها الوكالة
يوم ننتقل إلى بيت الآب!
فالسؤال الّذي يُطرح هُوَ: كيف نستفيد من هذا الرّصيد؟ كيف
نستثمره؟ هل نوظّفه جيّدًا؟ وفي سبيل ماذا؟ هل نترك لروح الربّ أن
يعمل في حياتنا؟ هل نصغي إلى همساته إلينا من خلال الكتاب
المقدّس والكنيسة؟!

 "…ولِهـذَا مَسَحَني لأُبَشِّرَ الـمَسَاكِين"

حين أدّى يسوع رسالته على الأرض، قلب العديد من المفاهيم السائدة
حتّى يومنا… فنحن نكرّم الأقوى والأغنى والأقدر أمّا تملّقًا وبحثًا عن
الإفادة الشخصيّة وإمّا خوفًا من أذيّتهم…
ولكن يسوع كان جذريًا في خياراته حين أعطى الأولويّة للأضعف
والأفقر والأبسط لأن مقاييسه مختلفة… وهو لم يفعل ذلك ليُبقي
الضعيف على ضعفه أو الفقير على فقره أو القدير على بطشه بل
ليبني جسر تواصلٍ يحفّز القويّ على حماية الضعيف والغني على
مساعدة الفقير والقدير على مساندة البسيط…
فالسؤال الّذي يُطرح هُوَ : هل تتناسب أفكارنا مع أفكار يسوع وهل
نجرؤ على مواجهة الظلم والفقر و"التعتير" بحلولٍ لا عمليّة وليست
فقط بالمواقف "الإعلانيّة"؟ هل نهتمّ بالمساكين روحيّاً ومادياً أم كلّ
اهتمامنا منصبٌ على المقتدرين؟!

 "وأَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ بِإِطْلاقِ الأَسْرَى "

ليس الأسير فقط من كان أسير الحرب أو المقبوض عليه بتهمةٍ ما بل
هو كلّ من فقد حريّته ولا سيّما بإرادته… والخاطئ "المرتاح" و
"الفرح" بخطيئته هو أكبر الأسرى لأنّه سيرفض أن يحرّره أحد…
لهذا قال الربّ يسوع بأنّه "سينادي" أي سيترك الخيار للأسير أن
يتحرّر ولكن بعد أن يبيّن له سوء حالته!
والسؤال الّذي يُطرح علينا: هل نحن من الأسرى؟ أو ممّن يسبّبون
الأسر للآخرين؟ هل نعلم بشقاء وألم هؤلاء الأسرى وما أكثرهم في
أيّامنا؟!

 "وعَوْدَةِ البَصَرِ إِلى العُمْيَان"
لقد شفى يسوع المسيح عدّة عميان ولكنّ النص المقتبس عن آشعيا
يذكّرنا بنوعٍ آخر من العمى تحدّث عنه الأنبياء ومنهم إرميا حين قال:

"إسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم، الذين لهم أعين ولا
يبصرون. لهم آذان ولا يسمعون" (إرميا 5 / 21).
العمى هو إغلاق القلب والفكر عن الخلاص والفداء اللذين أتى بهما
المسيح من أجل خلاص العالم… وهو رفض "إبصار" ما أضحى
جليًّا مع مجيء المسيح وآلامه فصلبه فموته وقيامته…
بمختصر العمى هو رفض يسوع المسيح…
والسؤال الّذي يُطرح علينا: هل نحن من هؤلاء العميان الرافضين
لإبصار يسوع وما يريده منهم من أجل خلاصهم؟

 "وأُطْلِقَ الـمَقْهُورِينَ أَحرَارًا"

العميان الّذين تحدّثنا عنهم هم عميان بإرادتهم… أمّا المقهورون فهم
يخضعون لنزوات ولقسوة أناسٍ آخرين لا قلب لهم ولا رحمة!
كثيرون تقهرهم ذواتهم وليس عاملٌ خارجيّ فهل بمقدورنا أن
نساعدهم على محبّة وتقدير ذواتهم من جديد؟!
فالحريّة للمقهورين تتحقّق حين يشعرون بأهميّة وجودهم وبإنسانيّتهم
وبدورهم كأشخاص وليس كزيادة عدد في البشريّة! وهي في أن
يحقّقوا إنسانيّتهم عبر عيش حقوقهم الطبيعيّة والوضعيّة لا كمنّة من
أحد!
والسؤال الّذي يُطرح علينا: هل نحن من المقهورين؟ أو من
القاهرين؟ وكيف؟

 "وأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لَدَى الرَّبّ"
لقد إفتتح يسوع عصر إنتصار الله على الشرّ والخطيئة… وأبقى لنا
كلّ اللازم لإستكمال الطريق…

فالسؤال الّذي يُطرح علينا: هل نعي أهميّة الوقت الّذي يمنحنا إيّاه
الله؟ هل نعي أنّنا معاونو الله في مشروع الخلاص؟ كم نخصّص من
وقتنا للمساهمة في نجاح هذا المشروع؟ وهل نكرّس للربّ وقتاً
محدّداً من حياتنا أم حياتنا كلّها بين يدي الربّ؟!

ما يدعونا إليه إنجيل اليوم هو الدخول في منطق الربّ يسوع والإبتعاد عن
مسلّمات المجتمعات التي ما زالت، رغم مرور ألفيّتين على التجسّد، تساير
الأغنى والأقوى والأقدر….
في الواقع، علينا أن نُجري إنقلابًا على الذات كي نحرّرها من إسار كلّ هذه
الأفكار الماديّة الطابع ونعود فنشحنها بأفكار الربّ التي تتيح لنا أن نراه في
كلّ إنسانٍ مهما كانت حالته.
يدعوك إنجيل اليوم أيضًا إلى إنشاء شراكة مع الربّ لتساهم في تحرير أسرى
الفقر والظلم…
لنسأل الله اليوم ان يحرّرنا ويخلّصنا ممّا أوقعنا فيه أنفسنا ولنعد إلى حصن
إيماننا به وبقدرته في حياتنا!

اترك تعليقاً