الخوري نسيم قسطون:
ما أعمق سرّ اللقاء الذي يجمع الإنسان بالله، لقاءٌ يتجاوز الزمن والمكان ليحمل معنى الخلاص والرجاء. في هذا الحوار الخالد بين يسوع المسيح ونيقوديموس (يوحنا 3: 1-16)، نرى دعوة صريحة إلى ولادة جديدة تفيض من محبّة الله اللامحدودة. هذه المحبّة ليست مجرّد كلمات عابرة، بل فعل دائم ومؤسِّس لحياة جديدة يمنحها الله للبشرية عبر ابنه الوحيد.
نيقوديموس، وهو رجل متمسّك بالشريعة وعارف بأحكامها، أتى إلى يسوع حاملًا أسئلة تُثقل كاهله. أراد فهم سرّ الحياة الجديدة، فأجابه يسوع بمحبّة مليئة بالحكمة: “يجب أن يولد الإنسان من الماء والروح”. كانت هذه العبارة المفتاح الذي فتح قلب نيقوديموس على سرّ الخلاص. فالولادة الجديدة ليست مجرّد تغيير ظاهري، بل هي انغماس في أعماق محبّة الله، تلك المحبّة التي تجعلنا أبناء للنور بعد أن كنا متخبّطين في ظلمة الخطيئة.
وفي قلب هذا الحوار المدهش، يضع يسوع أمامنا صورة موسى الذي رفع الحيّة في البريّة، مشيرًا بذلك إلى الصليب الذي سيكون محور خلاص البشرية. هذا الصليب ليس مجرّد خشبة، بل علامة على بذلٍ لا يُضاهى، إذ أعطى الله ابنه الوحيد ليكون لنا الحياة الأبدية. هنا تتجلّى عظمة الله الذي أحبّ العالم بكل ضعفه وألمه، فحوّل المحنة إلى رجاء، واليأس إلى حياة جديدة.
لكن، ما قيمة هذا اللقاء إن بقي حبيس الكلمات؟ إن يسوع يدعونا لأن نعيش هذه الولادة الجديدة يوميًا، في علاقتنا معه وفي تعاملنا مع الآخرين. الصلاة، الإفخارستيا، التأمّل بالكتاب المقدّس، وأعمال الرحمة، جميعها تشكّل جسورًا تعيدنا إلى حضن الله. فكلّ فعل حبّ حقيقي نؤديه تجاه فقير، مريض، مظلوم، أو محتاج، هو شهادة حيّة على إيماننا بعمل الله الخلاصيّ.
اليوم، وفي زحمة الحياة التي قد تُبعدنا عن هذا اللقاء المقدّس، يبقى السؤال: هل نقترب من الله كما فعل نيقوديموس؟ هل نجد الوقت لنستمتع بحضوره ونستقي من نوره، أم أننا ننشغل بما نعتبره أولويات، متناسين أن مصدر الحياة الحقيقية هو الله وحده؟
الله ينتظرنا بصبر لا ينفد، يدعونا لأن نخترق ظلمة حياتنا بنور محبّته. حين نختار العودة إليه، يصبح كلّ يوم فرصة جديدة لنولد من جديد، لنعيش كأبناء النور، ولنتلمذ قلوبنا على محبّته اللامتناهية. ففي كلّ لقاء مع الربّ، نكتشف أبعادًا جديدةً لمعنى الحياة، ونجد في محبّته القوّة التي تجدد نفوسنا وتدفعنا لنكون شهودًا له في عالمٍ عطِشٍ إلى الأمل.
