الخوري نسيم قسطون:
في زمن تتدفق فيه المعلومات والمعارف، يلفت الانتباه ذلك التناقض الصارخ حيث يزداد عدد من ينجرفون وراء تفسيرات حرفية ومشؤومة لنصوص كتابية، فيتحوّل إيمانهم إلى مرتع للخوف والقلق. فهم يترصدون الحوادث الكونية والاضطرابات الاجتماعية، سعيًا وراء تأكيد نبوءات عن قرب النهاية، غافلين عن الجوهر الحقيقي لرسالة هذه النصوص.
يحذّرنا إنجيل اليوم (متى 24: 23-31) من الأنبياء الكذبة الذين يأتون بآيات عظيمة ليضلّوا حتى المختارين.
هذا التحذير ليس دعوة للارتياب، بل للتريّث والتمييز. فالإيمان الراسخ لا يُبنى على الخوارق أو الإشاعات، بل على صخرة الكلمة الإلهية وتعليم الكنيسة. إن ممارساتٍ مثل تداول صلوات مشروطة بالتهديد، أو خلط رموز الإيمان بتفاصيل خرافية، تكشف عن انزياح خطير عن جوهر الإيمان، نحو فلكلور يغلّف الخوف بمسحة دينية.
القراءة الحرفية للنصوص، خاصة تلك ذات الطابع الرؤيوي، تشوّه مقصدها الأساسي. فهذه النصوص لم توضع لبثّ الذعر، بل لتحفيز المؤمن على الاستعداد الدائم واليقظة الروحية. القلب المنشغل بنهاية العالم هو قلب مشتت عن نهاية حياته الشخصية، التي قد تأتيه في أي لحظة. لذا، يكون التركيز الأوْلَى على “آخرتنا” الخاصة، عبر التوبة والعمل الصالح، بدلاً من الانشغال بموعد “آخرة” العالم.
الخوف نقيض الرجاء، والإيمان المبني على الخوف هو إيمان هش، كمن يبني بيته على الرمل. أما الإيمان الحقيقي فينبع من علاقة حب وثقة بالله، الذي يريد لخلائقه حياةً ملؤها الفرح والوفرة. فكيف يتناسب الخوف المستمر مع وصية “لا تخافوا” المتكررة، أو مع دعوة الرسول بولس للفرح في الرب كل حين؟
العلامة الحقيقية لابن الإنسان تتجلى اليوم في حضوره المستمر في كنيسته، عبر أسرارها، ولا سيما سر الإفخارستيا، وعبر كلمته الحية. إن تقدير حضور الله في هذه الأمور اليومية البسيطة أغنى من انتظار ظهورات خارقة. الإيمان الناضج هو الذي يتجذر في المحبة والعمل بكلمة الله، لا في الانبهار بالعجائب. فهو يشبه من بنى بيته على الصخر، فاستطاع أن يثبت أمام كل عاصفة.
لذلك، يدعونا نصّ اليوم إلى تحوّل جذري: من ثقافة الخوف والترقب السلبي، إلى ثقافة الرجاء والفرح والعمل البنّاء. إنها دعوة لنجعل من حياتنا احتفالًا دائمًا بحضور الله، نعبّر عنه بمحبة القريب والثقة بأن القائم من الموت قد حوّل الموت نفسه من نهاية إلى بوابة للحياة الأبدية.
