الأحد الثالث بعد عيد الصليب

الخوري نسيم قسطون:

في عالمٍ تزداد فيه التساؤلات ويشتدّ تداخل الأحداث، نجد أنّ الحاجة لفهم أعمق للنصوص الدينية والتاريخية المتعلقة بمصير الإنسان والعالم أصبحت ملحة.

كثيرون اليوم يربطون بين أي ظاهرة طبيعية أو اجتماعية، بل وحتى الحروب، وبين آيات من الكتاب المقدس أو نبوءات قديمة، لإثبات اعتقاداتهم بأن نهاية العالم باتت وشيكة. هؤلاء الأفراد يعيشون في ظلال التشاؤم، ينتظرون “الساعة”، ويمضون حياتهم في حالة من الخوف الدائم، زارعين هذا الخوف في نفوس الآخرين، ومؤكدين القلق حول مستقبلٍ مجهول بسبب قراءة “حرفية” للكتاب المقدس.

لكن الكنيسة تحذر من هذه القراءة السطحية للنصوص المقدسة، لأنها تقود إلى فهم مجتزأ أو مشوَّه للرسالة الروحية العميقة التي تحملها هذه النصوص كما أنّها تتناقض بشكل واضح مع روح الإيمان المسيحي، الذي يدعونا مرارًا وتكرارًا في الكتاب المقدس إلى عدم الخوف، إذ أن الخوف ليس من الإيمان، بل يتعارض معه.

النصوص التي تتناول نهاية العالم، مثل ما ورد في إنجيل متى وسواه، لا تهدف إلى إثارة الرعب في نفوس الناس. بدلاً من ذلك، هي دعوة للنظر إلى الأبدية والاستعداد للقاء الرب. غير أن هذا الاستعداد لا يعني العيش في خوف دائم وقلق مستمر، بل يدعونا للعيش في سلام داخلي وثقة بمشيئة الله. النصوص الرؤيوية تأتي لتعزز الرجاء في نفوسنا، فهي تؤكد أن ابن الإنسان سيظهر في نهاية المطاف ليملأ العالم بالسلام والطمأنينة، وأن التشاؤم والظلام لن يكون لهما الغلبة.

بدلاً من الانشغال بتوقع نهاية العالم وزرع الرهبة، علينا أن نوجه انتباهنا نحو تنمية حياتنا الروحية الشخصية، وتوبتنا. فقد تأتي نهاية العالم في يومٍ ما، لكن نهايتنا الشخصية قد تكون أقرب مما نتوقع. ما هو ضروري حقًا هو أن نترك خلفنا ذكراً طيباً، وأعمالاً صالحة، بدلاً من أن نكون “أبواقاً” للهلع والخوف. المسيحية تعلّمنا أن حياتنا ليست سلسلة من الكوارث المتتالية التي تقودنا إلى الفناء، بل هي رحلة نحو الحياة الأبدية، وهي رحلة تحوّل الموت، بفضل قيامة المسيح، إلى بابٍ يعبر بنا إلى الحياة السماوية.

في إنجيل اليوم (متى 24: 23-31)، نجد دعوة واضحة للاستعداد المستمر للقاء الرب. وهذا الاستعداد ليس مقتصراً على نهاية الحياة، بل هو دعوة للحياة في كل لحظة، وفي كل عمل صالح نستطيع القيام به. النص يدعونا لرؤية علامة ابن الإنسان في الكنيسة، وفي الكلمة المقدسة، وفي الأسرار، وخاصةً في سر الإفخارستيا. بدلاً من التركيز على الأحداث المخيفة التي تُعرض أحياناً بطرق تُثير القلق، نحن مدعوون لرؤية الله في حياتنا اليومية، وفي أعمال المحبة والخدمة التي نقدمها للآخرين. عندما نختبر حضور الله في هذه الأعمال، يتحوّل الخوف إلى رجاء، والقلق إلى سلام.

العيش في حالة من الخوف الدائم يعطّل الجوهر الحقيقي للإيمان، وهو الثقة في أن الله محب ومُخلّص، وليس قاضياً ينتظر الفرصة لمعاقبة البشر. الحب المبني على الخوف هو حب غير مستدام، لأنه يتناقض مع طبيعة الحب الحقيقي الذي يحرر ويمنح الطمأنينة. في حين أن الخوف يقيدنا، فإن الحب يقودنا إلى الفرح والسلام.

وكما قال القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي: “إفرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا إفرحوا” (فيليبي 4:4). إذا كانت حياتنا مليئة بالخوف والقلق، فإننا نعارض مشيئة الله الذي قال في إنجيل يوحنا: “جئت لتكون لهم الحياة ولتكون لهم أوفر” (يوحنا 10:10). الإله الذي يدعونا إلى الحياة والفرح لا يريدنا أن نعيش تحت وطأة الخوف، بل في نور الرجاء.

مع ذلك، ورغم كل التقدّم العلمي والمعرفي الذي شهدناه في عصرنا، لا يزال البعض يتأثرون بالظواهر الروحية أو الخوارق الطبيعية دون تمحيص. البعض يبحث عن حلول سحرية لمشاكل الحياة، ويلجأ إلى من يدّعون معرفة الغيب أو تقديم إجابات خارقة. هؤلاء “الأنبياء” و”المسيحون” الكاذبون يضللون المؤمنين ويبعدونهم عن جوهر الإيمان الحقيقي. لكن المسيحية تعلمنا التمييز الروحي، فلا يجب علينا أن نصدق كل ما نسمعه دون التأكد من صحته وفقًا لتعاليم الكتاب المقدس والكنيسة.

وفي هذا السياق، تبقى كلمات القديس بولس إلى أهل كورنثوس واضحة: “ولا عجب، فإن الشيطان نفسه يتنكر بلباس ملاك النور” (2 كورنتوس 11:14). علينا أن نكون يقظين، فلا نصدق كل ما يبدو خارقاً، إذ أن الإيمان الحقيقي لا يقوم على الخوارق أو العجائب، بل على العلاقة العميقة مع الله من خلال الصلاة والأسرار وأعمال المحبة. من لا يقدر حضور الله في القربان المقدس، ومن لا يجد عزاءه في كلمة الله، لن يجد في الخوارق ما يمنحه السلام الدائم.

نحن مدعوّون إذًا إلى الانتقال من عصر الخوف إلى عصر الفرح. ابن الإنسان سيظهر ليملأ العالم بالسلام والرجاء، وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن نسعى إليه. نحن مدعوون لرؤية الله في كل شيء: في أعمال المحبة، في كلمات الخير، وفي كل لحظة نعيشها. لا حاجة إلى الخوارق والعجائب لإدراك حضور الله، فهو موجود دائماً، يرافقنا في رحلتنا نحو الحياة الأبدية.

في الختام، الحياة مع الله ليست مسيرة خوف وقلق، بل هي مسيرة فرح وسلام. النصوص المقدسة تدعونا إلى الثقة بالله والتعلق بمحبته التي لا تنتهي. علينا أن نعيش حياتنا بموجب هذه المحبة، وأن نكون شهوداً لحضور الله في العالم من خلال أعمالنا وأقوالنا، رافعين راية الرجاء في عالمٍ يبحث عن النور.

اترك تعليقاً