الخوري نسيم قسطون:
في مثل الزارع (لوقا 8: 1-15)، يقدّم الرب يسوع تشخيصًا دقيقًا لقلوب البشر واستعدادها لتلقّي كلمته. فالزرع هو كلمة الله ذاتها، التي تسقط على أنواع مختلفة من التربة، رمزًا للقلوب البشرية بمختلف ظروفها وأحوالها. والرب، في حكمته اللامتناهية وصبره العظيم، لا يبذر في الأرض الجيدة فقط، بل ينثر بذوره على كل أنواع التربة، معطيًا كل قلب فرصة ثمينة ليتغير ويصبح أخصب.
فأولئك الذين على جانب الطريق هم من يسمعون الكلمة بآذانهم، لكن قلوبهم بقيت كطريق مداس، متصلبة ومكشوفة، فتقبلها بسهولة وتفقدها بسهولة أكبر. إنهم يعيشون على هامش الإيمان، راضين بالانتماء الاسمي أو الممارسات الشكلية، من دون أن تلمس الكلمة أعماقهم فتُحدث تحولًا حقيقيًا.
وأما الذين على الصخرة، فيحتفلون بالكلمة عند سماعها، ترتفع مشاعرهم سريعًا، لكنها تتبدد أسرع. إيمانهم سطحي، لا جذور له يتحصن بها عند أول موجة تجربة أو شدة. حماسهم للمناسبات والأعياد لا يعكس التزامًا حقيقيًا، فتبقى قيم الإنجيل غريبة عن سلوكهم اليومي.
والذين بين الشوك، تصلهم الكلمة وتعيش في قلوبهم، لكنها تختنق بين هموم الحياة وملذاتها وصراعاتها. إنهم منشغلون بالبحث عن الرزق والأمان المادي، لدرجة أنهم يهملون كنزهم الروحي، فيعيشون في قلق دائم، وينسون أن الحياة الحقيقية هي ما يلي الحياة المادية.
أما الأرض الجيدة، فهي القلب الذي يستمع بكليته، ليس بالأذن فقط، بل بالروح والعقل والإرادة. إنه القلب المتواضع المنفتح، المستعد دائمًا للتغيير، الذي يحفظ الكلمة ويصبر عليها حتى تؤتي ثمرًا متواصلًا من المحبة والفرح والسلام. هذا الثمر لا ينمو لصاحبه فقط، بل يغذي العائلة، والمجتمع، والرعية، والوطن بأكمله.
السؤال الجوهري الذي يطرحه المثل علينا اليوم ليس: “أي أرض أنا؟”، بل هو: “ماذا ينقصني لأكون أرضًا جيدة؟”. الجواب يكمن في قرارنا اليومي. فالله، ذلك الزارع الصبور، لا يتوقف عن منحنا فرصًا لا تحصى لنتحول من أرض قاحلة إلى حديقة غناء. إنه يبذر فينا دائمًا، حتى عندما نكون صخرًا صماء أو أرضًا مليئة بالأشواك. هو يثق بقدرتنا، بمعونته، على تغيير تربتنا.
فالتحول ممكن دائمًا. وذلك يبدأ بخطوة بسيطة: أن نقرر أن نثبت في المسيح، أن نروي قلوبنا بصلاة صادقة، وأن ننقّيها من حجارة الأنانية وأشواك الاهتمامات العالمية الزائلة. عندما نصبح أرضًا جيدة، لا يقتصر ثمرنا علينا، بل يصبح نعمة للعالم من حولنا، وتحقيقًا لحلم الله في أن يرى كلمته تنمو فينا، فتحوّلنا وتحوّل عالمنا إلى عالم أكثر رحمة وعدلاً وسلامًا.