الأحد الثالث من زمن العنصرة

You are currently viewing الأحد الثالث من زمن العنصرة

الخوري نسيم قسطون:

في قلب العلاقة مع الله، ليست الوصيّة مجرّد أمر أخلاقيّ يُملى من الخارج، بل هي انعكاس طبيعيّ لحالة القلب الذي أحبّ فامتلأ بالرغبة في الطاعة. فالمحبّة لا تُفرض ولا تُستَجدَى، بل تنبع تلقائيًّا ممّن عرف الله، لأنّ من عرف الله بعمقٍ لا يمكنه إلّا أن يحبّه ويحفظ كلمته (يوحنا 14: 21-27). العلاقة مع الربّ ليست قائمة على الواجب، بل على الحبّ، وأيّ تصرّف خارج عن هذا السياق يفقد طعمه وقيمته، كما تفقد الوردة أريجها إذا اقتُلعت من جذورها.

حين قال يسوع: “من يحبّني يحفظ كلمتي”، لم يكن يتحدّث عن الامتحان، بل عن السكنى. فالله لا يريد أن يمرّ في حياتنا مرّ العابرين، بل أن يقيم، أن يسكن في قلبٍ يصبح له مقرًّا، بيتًا دائمًا. هذا لا يحصل إلّا حين يختار الإنسان الله حبًّا، لا خوفًا، ولا عادة، ولا مصلحة. فالبيت الذي يسكنه الله هو ذاك المبني على أساس المحبّة، لا على الحجارة ولا على الطقوس الخارجيّة فحسب.

المحبّة التي يطلبها الربّ منّا ليست نظريّة بل فعليّة. هي في الإصغاء الحقيقيّ، في الخدمة الصامتة، في الغفران الصعب، في المبادرة التي لا تنتظر المقابل، في حضورنا الفاعل حيث يُظلم الإنسان ويُهمَّش ويُنسى. لا تنمو المحبّة الحقيقيّة في الخيال بل في واقع الحياة اليومية، حيث الجائع ينتظر خبزًا، والمريض دواء، والحزين أملًا. هناك فقط يتجلّى حضور الله، لا في الكلمات الجميلة فحسب، بل في الأفعال المملوءة رحمة.

كم من المرّات نظنّ أنّ الإيمان يُقاس بعدد صلواتنا أو بمعرفتنا بالكتاب المقدّس، فيما يغيب عنّا أنّ المعيار الحقيقيّ هو في قدرتنا على المحبّة. والذين يحبّون بصدقٍ يعرفون أنّ هذا الدرب ليس سهلًا دائمًا. إنّه يتطلّب تخطّي الأنانيّة، وتحمّل الآخر في ضعفه، ومسامحته حين يجرحنا، وإعادة بناء الجسور حين تنهار. وهنا، لا يعود الكلام عن المحبّة كفضيلة بعيدة بل كخبرة حيّة تطبع كلّ تفاصيل الوجود.

لكن من أين لنا القوّة لفعل هذا؟ هنا، يكشف لنا يسوع عن دور الروح القدس، ذاك المعزّي والمذكّر والمعلّم. الروح لا يمنحنا معرفة عقليّة فحسب، بل يسكن في القلب ويعلّمنا لغة الله: لغة المحبّة. هو الذي يعيدنا إلى الكلمة حين ننسى، ويوقظ فينا الاشتياق إلى الله حين نغرق في اللامبالاة. هو الذي يجعل من المحبّة نمط حياة، لا لحظة عابرة من الحماسة.

سلام المسيح لا يشبه سلام العالم، لأنّه لا يعتمد على الظروف ولا على الضمانات. سلامه يسكن القلب حتّى وسط العواصف، لأنّه ينبع من يقين راسخ بأنّنا محبوبون، وأنّ هذا الحبّ هو أقوى من كلّ ما يهدّدنا أو يقلقنا. حين نحفظ الكلمة، يصبح السلام وعدًا يتحقّق لا شعورًا ننتظره. يصبح موقفًا نختاره لا شعورًا نخاف زواله.

من يسير في درب المحبّة، يكتشف أنّه يقترب أكثر من وجه الله الحقيقي. لا الإيمان وحده يكفي، ولا الرجاء وحده ينجّي، بل المحبّة هي التي تجمع الكلّ وتوجّه القلب نحو الله. هذا ما فهمه القدّيسون حين قدّموا ذواتهم حبًّا بالمسيح، وهذا ما نحن مدعوّون إليه اليوم، لا بأعمال بطوليّة خارقة، بل بخطوات صغيرة ثابتة يوميّة. أن نحبّ حيث يوجد الحقد، أن نغفر حيث يوجد الجرح، أن نشارك حيث يسود البخل، أن نضيء حيث يغلب الظلام.

هكذا نصبح فعلًا صورة الله على الأرض، هكذا نسكن في الله ويسكن هو فينا، وهكذا تُصبح حياتنا إنجيلاً مفتوحًا يقرأ فيه العالم وصيّة المسيح الجديدة: “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”.

اترك تعليقاً