الخوري نسيم قسطون:
في عالمٍ يزدحم بالأفكار المتناقضة والمعتقدات المتباينة، يجد المسيحي نفسه أمام تحديات يومية تتعلق بالإيمان، بين محاولات التنوير الزائف والخداع المتكرر، لذا بات من الضروري التمسك بالحقائق الإلهية التي كشفها المسيح، والتحلّي بالحكمة الروحيّة التي تمكّن المؤمن من التمييز بين الحقّ والباطل.
في المجتمع الحديث، نشهد تناقضًا غريبًا: على الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي، نجد أن الخرافات والمعتقدات الشعبية لا تزال تحتل مكانًا كبيرًا في حياة الكثيرين. يقترب البعض من الكنيسة ومن الله ولكن في نفس الوقت قد يتبعون معتقدات لا تستند إلى الإيمان الحقيقي: يفتتحون يومهم بالصلاة ثم يستشيرون الأبراج أو العرافين ليعرفوا مسار يومهم. هنا تكمن خطورة الإيمان المزيف الذي ينشأ عندما يُستبدل الرجاء بالله برجاء كاذب يُبنى على الوهم.
في إنجيل اليوم (متى 24: 1-14)، يذكر الرب تحذيرًا صريحًا: “إِحْذَرُوا أَنْ يُضِلَّكُم أَحَد”.
هذه الكلمات ليست مجرّد إشارة إلى المستقبل البعيد أو إلى نهاية العالم فقط، بل هي دعوة مستمرّة لكلّ المؤمنين في كلّ الأزمان. فالمسيح هنا يحثّ أتباعه على التمييز بين الحقائق الإلهية وما قد يواجههم من إدعاءات زائفة تأتي من أشخاص يدّعون النبؤة أو المعرفة الفائقة. هذا التحذيرذ يبرز أهمية الوعي الروحي والحذر من تلك التأثيرات التي تسعى لإبعاد المؤمن عن إيمانه الصافي.
إن المسيح يحذّرنا بوضوح من الأنبياء الكذبة الذين يسعون لتضليل الناس. أولئك الذين يقدمون رؤى مغلوطة عن المستقبل أو يدعون معرفة الغيب، بينما في الواقع يسعون لاستغلال مخاوف الناس وقلقهم. فالمستقبل في يد الله وحده، والاعتماد على أي شيء آخر غير الله يعني الابتعاد عن الإيمان الحقيقي.
من المثير للتفكير كيف أن هذه الإشارات ليست جديدة على البشرية. فالإنسانية على مر العصور واجهت نفس التحديات، وتعرضت لنفس التجارب. وما إنجيل اليوم إلا تذكير لنا بأن هذه التحذيرات ليست محصورة في فترة زمنية محددة. ففي كل يوم، قد يواجه المسيحي تجارب مماثلة. قد يأتي الخطر من الداخل، عندما ينفصل المؤمن عن تعاليم المسيح ويصبح مجرد “مسيحي بالإسم”. هنا يظهر “المسيح الدجال”، ليس ككائن خارجي، بل في داخل كل فرد يتخلى عن تعاليم الرب ويفقد إيمانه الحقيقي.
ولكن الرب لا يدعونا إلى الخوف، بل إلى الرجاء. في كل نصوص الإنجيل، نجد أن الرب يشدد على الأمل والرجاء في الخلاص. نعم، قد تكون هناك علامات تشير إلى نهاية الأمور الزمنية، ولكن في كل ذلك، الرب يدعونا إلى الثبات في الإيمان. هذا الثبات هو الذي يمنح المؤمن القوة ليتجاوز الصعاب ولا يسمح للخوف بالسيطرة على قلبه.
النقطة المهمة هنا ليست في الخوف من النهاية، بل في التحلي بالإيمان الراسخ الذي يمكنه أن يواجه كل التحديات. لقد قال الرب: “ومَنْ يَصْبِرْ إِلى النِّهَايَةِ يَخْلُصْ”. هذا الصبر لا يعني فقط التحمل الجسدي، بل هو صبر روحي ينبع من الثقة في الله، حتى في أوقات الألم والشقاء. فالألم والمعاناة ليسا بالضرورة عقابًا إلهيًا كما يفهمه البعض. بل هما جزء من التجربة الإنسانية التي يمكن أن تقود إلى النمو الروحي إذا تم التعامل معها بحكمة وإيمان.
نحن مدعوّون إذًا إلى تغيير منظورنا تجاه الألم والموت. فالموت، كما يوضحه الرب، ليس نهاية مخيفة، بل هو بوابة عبور إلى الحياة الأبدية. إنه انتقال إلى وجود جديد في حضرة الله. ولكن هذا الفهم يتطلّب منا تجديدًا يوميًا في الإيمان، وتجديدًا في فهمنا للعلاقة مع الله. نحن لا نعيش فقط لنحقق مكاسب مادية أو نفوذًا زائلًا، بل نحن مدعوون للسعي نحو ملكوت الله أولًا. قال يسوع: “أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وكلّ الباقي يزاد لكم”.
هذه الدعوة هي نداء لكل واحد منا للتفكير في الأولويات التي نضعها في حياتنا: أين يكمن تركيزنا؟ هل نسعى لتحقيق أمور دنيوية فقط؟ أم نسعى لنيل ما هو أعظم وأبدي؟
من بين هذه التحديات، يبرز دور الكنيسة كجماعة المؤمنين. فالكنيسة ليست مجرد سلطة أو مؤسسة، بل هي الجسد الحي للمسيح على الأرض، تتكون من كل المؤمنين الذين يسعون لتحقيق رسالته في العالم. نعم، قد تتعرض الكنيسة للنقد من الداخل والخارج، ولكن هذه الانتقادات قد تكون فرصة للنمو والتجدد. كما أن مديح الناس قد لا يكون دائمًا صادقًا، فكثيرون ممن هتفوا ليسوع يوم الشعانين طالبوا بصلبه يوم الجمعة العظيمة.
التحدّيات التي نواجهها اليوم، سواء كانت في مجالات السياسة، الاقتصاد، أو حتى في حياتنا الروحية، تتطلب منا توجيه أنظارنا نحو المسيح وحده. فالعالم يحاول باستمرار إقناعنا بأننا بحاجة إلى أشياء دنيوية لنشعر بالسعادة أو الأمان. ولكن كما جاء في قانون الإيمان: “وبربّ واحد يسوع المسيح، …، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا، نزل من السماء…”، نحن لسنا بحاجة إلى أي شيء سوى الله.
في النهاية، يحمل إنجيل اليوم رسالة قويّة تتعلّق بالإيمان والرجاء. قد تواجه البشرية صعوبات وآلام، ولكن من خلال الإيمان، يمكن تحويل هذه التحديات إلى فرص للنمو الروحي. كما أن الإنجيل يشير إلى أن البشارة ستنتشر في العالم كله قبل النهاية. هذا لا يعني بالضرورة أن نهاية العالم قريبة، بل يعني أن النور الإلهي سيظل دائمًا ينير العالم ويقود المؤمنين نحو الخلاص.
فهل نحن مستعدون كل يوم لبداية جديدة مع الله؟
Share via: