الخوري نسيم قسطون:
الإنسان كائنٌ متناقضٌ بطبعه، يحمل في داخله نزوعاً إلى الشكّ مع اشتياقٍ عميقٍ إلى اليقين. يبحث عن الاستقرار في عالمٍ يفيض بالغموض، ويسعى إلى إجاباتٍ تلجم قلقَه الوجودي، لكنّه يخشى أن تكون تلك الإجاباتُ وهميةً أو مبتذلة.
توما، في إنجيل اليوم (يوحنا 20: 26-31)، ليس مجردَ شخصيةٍ تاريخيةٍ عابرة، بل هو مرآةٌ تعكس صراعَ كلّ إنسانٍ مع شكّه وتوقَه إلى الحقيقة. فمن منّا لم يمرّ بلحظاتٍ أراد فيها أن “يلمس الجروح” كي يتأكد من صدق ما يؤمن به؟ من لم يتساءل في صمتٍ عن معنى الحياة والموت، عن العدل الإلهي في عالمٍ يغرق بالظلم، أو عن وجود محبةٍ حقيقيةٍ في قلب هذا الكون الصامت؟
لكنّ الشكَّ، في حقيقته، ليس عدواً للإيمان، بل قد يكون جسراً يعبر به الإنسانُ من إيمانٍ سطحيٍّ موروثٍ إلى إيمانٍ شخصيٍّ عميق. المشكلة ليست في الشكّ ذاته، بل في أن نجعله مأوى دائمًا بدلَ أن يكون محطةً نحو البحث. توما لم يهرب من أسئلته، بل حملها إلى حيث يُنتظر الجواب: إلى قلب الجماعة المؤمنة.
هناك، بين التلاميذ، في حضرة الكنيسة الناشئة، وجد المسيحَ قائمًا بجراحه الظاهرة. لم يُعطِه الربُّ محاضرةً لاهوتيةً عن القيامة، بل قال له: “هاتِ إصبعَك إلى هنا”. الإيمان لا يُفرض بالمنطق المجرد، بل يُمنح في لقاءٍ حميميٍ يلامس فيه الإنسانُ جراحَ المحبة الإلهية.
اليوم، نعيش في زمنٍ يقدّس العقلَ الماديَّ وينظر إلى الشكِّ كفضيلةٍ مطلقة، لكنّه ينسى أن العقل نفسه له حدوده. فكيف نفسرّ تضحيةَ الأم، أو إخلاصَ الصديق، أو جمالَ الغفران، أو إصرارَ الإنسان على الأمل رغم كلّ المآسي؟ هذه الأمور لا تُفسّر بالمعادلات، بل تُفهم بلغة القلب، بلغة الإيمان. المسيح لم يزدرِ بتوما، بل احتضنَ شكَّه وحوّله إلى اعترافٍ إيمانيٍّ باهر: “ربّي وإلهي!”. الشكُّ الذي يبحثُ بصدقٍ يصبحُ طريقًا إلى الإيمان، أمّا الشكُّ الذي يكتفي بنفسه فهو طريقٌ إلى العدمية.
الكنيسة، في رموزها وأسرارها، تقدم لنا “جراح المسيح” الملموسة: كلمته التي لا تشيخ، وخبز الحياة الذي يُشبع جوعنا إلى الأبد، وشركة القديسين الذين يشهدون بأنّ القيامة ليست فكرةً مجرّدة، بل واقعًا يعيشونه.
عندما نلمس هذه الحقائق، نختبر ما اختبره توما: الانتقال من الظنّ إلى اليقين، من القلق إلى السلام. لكنّ هذا السلام ليس هروبًا من الواقع، بل قوّةً تُعيننا على مواجهة العواصف، لأنّنا نعرف أنَّ الذي انتصر على الموت يسيرُ معنا في العتمة.
في النهاية، الإيمان ليس طوق نجاةٍ من الأسئلة، بل شجاعةٌ لمواجهتها مع الثقة بأنّ النورَ موجود، حتى لو بدا خافتًا. المسيح يخترق اليومَ أبوابَ قلوبنا المغلقة بالخوف أو الإحباط، ويقول لكلّ واحدٍ منّا: “طوبى للذين لم يروا وآمنوا”. هذه الطوبى هي نعمةُ أولئك الذين يكتشفون حضورَه في جراح العالم، في صمتِ القدّيسين، في بهاءِ الحبّ الذي ينتصرُ دائمًا. فلنكن مثل توما: لا نرفض الشكَّ، لكن لا نستسلم له. فلنبحثْ عن الجواب حيثُ وُعدنا أن نجدَه: في قلب الكنيسة، وفي جراحِ المسيح، وفي صلاةِ القلبِ الواثق.
