الأحد الحادي عشر من زمن العنصرة

You are currently viewing الأحد الحادي عشر من زمن العنصرة

الخوري نسيم قسطون:

رغم مكانة زكّا الماديّة كرئيسٍ للعشّارين وغناه (لوقا: 1-10)، شكّل وضعه الاجتماعي قفصاً مزدوجاً: مكروهٌ من الشعب لانتمائه لنظامٍ ظالمٍ، ومُتمسّكٌ بامتيازاته التي ولّدت فيه كبرياءً. لكنّ شرارةً غريبةً اشتعلت في داخله، دفعته للتطلّع إلى ما وراء ثروته ومركزه. لم تكن رغبته في رؤية يسوع مجرّد فضول، بل بحثٌ مضنٍ عن معنى غاب عن حياته المُترَفة الخاوية. الحشود التي حجبت الرؤية، وقصر قامته، لم تكن حواجز ماديّة فحسب، بل رموزاً لعوائق نفسيّة أعظم: الكبرياء والخوف من السخرية. تسلّقه الجمّيزة لم يكن عملاً طفولياً، بل كان لحظة انكسارٍ اختياريٍّ. تلك الشجرة المتواضعة تحوّلت إلى منبر تواضع، حيث تخلى طوعاً عن هيبته الأرضيّة، معرّياً قلبه المتعطّش أمام مرأى الجميع.

هذا الانكسار الاختياريّ هو ما لفت نظر المسيح. نداء يسوع: “يا زكّا، أسرع وانزل!”، لم يكن مجرّد دعوةٍ للضيافة، بل اعترافٌ بالتحوّل الذي بدأ في قلب الرجل الذي اختار أن ينزل من برجه الماديّ والاجتماعيّ قبل أن ينزل من الشجرة. السرور الذي غمر زكّا عند الاستقبال لم ينبع من مجرد لقاءٍ بشخصيّة مشهورة، بل من إحساسٍ عميقٍ بالتحرّر والغفران الذي سبق حتى كلمات التوبة. لقد وجد أخيراً ما كان يفتقده: قبولاً غير مشروط.

فعل التوبة الذي أعلنه زكّا – التبرّع بنصف الثروة وردّ المظالم بأربعة أضعاف – لم يكن شرطاً لرضا يسوع، بل كان ثمرةً طبيعيةً لذلك اللقاء المُحرِّر. لقد فهم أنّ التوبة الحقيقية ليست شعوراً عاطفياً، بل عدالةً عملية تُصلِح ما أفسده الماضي. تصرّفه كان اعترافاً ملموساً بأنّ الثروة التي جمعها كانت ملطّخةً بظلم الآخرين، وأنّ الغنى الحقيقيّ يكمن في العطاء والتسديد.

 

قصة زكّا تطرح سؤالاً وجودياً: ما “الجمّيزة” التي نحتاج لتسلّقها اليوم؟ إنها ليست شجرةً ماديّة، بل كلّ فعل تواضعٍ نختار القيام به لنزع الأقنعة: الاعتراف بالخطأ، طلب المساعدة، التخلّي عن موقفٍ دفاعيّ، أو مجرّد السجود بخشوع. لقاء المسيح الحقيقيّ لا يحدث في برج العزلة والكبرياء، بل في تلك اللحظات التي نختار فيها الانحناء بصدق. التغيير الجذريّ، كما في حياة زكّا، يبدأ عندما نجرؤ على “الصعود” إلى مكان الضعف الاختياريّ، حيث يلتفت إلى فعل الرحمة، ويُعلن إقامته في قلبنا المُستعدّ، ليثمر ذلك عدالةً ومحبّةً تلمسان حياة الآخرين.

اترك تعليقاً