الخوري نسيم قسطون:
مَثل العذارى الحكيمات والجاهلات في إنجيل متى (25: 1-13) يتجاوز كونه مجرد قصة رمزية عن التحضير لحفل زفاف، فهو يحمل في طياته معاني روحيّة عميقة ترتبط بضرورة الاستعداد المستمر للحياة الأبدية. من خلال هذا النص، يتم تشبيه العلاقة بين الإنسان والله بعلاقة الزواج، وهي دعوة دائمة للمشاركة في وليمة العرس الأبدي التي تفيض بالفرح والبهجة. العرس هنا لا يمثل حدثًا عابرًا، بل هو لقاء مقدس يعكس الفرحة الحقيقية للذين أعدوا أنفسهم لهذا اللقاء العظيم.
إنه الوقت الذي تستيقظ فيه النفوس من سباتها العميق وتدرك معنى الدعوة إلى العرس الأبدي. تلك الدعوة التي تأتي بصوت داخلي، وتهمس في أعماق كل نفس بأن العريس قد اقترب. هذا العريس الذي ينتظرنا، ويعرفنا من خلال خفقات قلوبنا، لا يمكن لقلب غافل أو روح مستسلمة أن تراه في الظلام. إنه النور الذي يرشدنا إلى الطريق، ولكن فقط أولئك الذين أعدوا أنفسهم، والذين ملأوا مصابيحهم بزيت الفضائل، سيكونون قادرين على رؤية طريق العرس والدخول إليه.
كل نفس على الأرض مدعوة إلى هذا العرس، لكن هل كل نفس جاهزة؟ هل استعد الجميع حقًا لهذا اللقاء؟ للأسف، الكثيرون لا يزالون مأسورين بملذات العالم، مضيعين الوقت في اللهو والغفلة، متناسين أن العريس يمكن أن يأتي في أي لحظة، فجأة ودون سابق إنذار. وكما يفوت بعض الناس مواعيد رحلاتهم بسبب الإهمال أو عدم الجهوزية، فإن الكثيرين سيفوتون عرس الحياة الأبدية بسبب عدم استعدادهم الروحي.
النفس الحكيمة هي التي تراقب نفسها، تحيا كل يوم كأنه اليوم الأخير، وتتخذ من جراح المسيح درسًا وعبرة. تبدأ بجرح الرأس، حيث تسلم إرادتها بالكامل إلى الله، وتنتقل إلى اليدين، التي تستخدمهما في عمل الخير وإسعاف المحتاجين، وتنتهي بجرح القلب، حيث تجد في حب المسيح وسيلة لاستنارة قلبها وجعلها خليقة جديدة تفيض بالحياة والفرح. هذه النفس تعي تمامًا أن العريس هو يسوع المسيح، وتنتظر لقائه بلهفة وشوق.
أما النفس الجاهلة، فهي تترك جراح المسيح تنزف دون مبالاة. جرح رأسها مليء بالتفكير المادي والأنا، ويديها مشغولتان بملذات الحياة وزخرفها، ولا تسعى إلى الخير أو الحب. تخاف من مواجهة نفسها وتغمض عينيها عن الآخرين، وفي لحظة الحقيقة، تقف فارغة، دون زيتٍ في مصباحها، وتظل تبحث عن شيء مادي يملأ فراغها، ولكن دون جدوى.
في هذا السياق، يحمل الزيت الذي أضاء المصابيح دلالة رمزية عميقة؛ فهو ليس مجرد مادة مادية، بل يمثل حصيلة الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان خلال حياته. هذه الأعمال الصالحة هي ما يميز العذارى الحكيمات، اللواتي كنّ مستعدات، عن الجاهلات اللواتي أغفلن التحضير.
افتقاد الجاهلات لهذه المادة يرمز إلى نقص الاستعداد الروحي، وعدم القدرة على الاستعداد في اللحظات الأخيرة. فكل لحظة في حياتنا هي فرصة للتزود بالتقوى والخير، من خلال الأعمال الصالحة، التأمل، والصلاة. العرس في النص لا يُعد حدثًا عابرًا، بل يشير إلى الحياة الأبدية التي يُدعى إليها الجميع، وتتطلب تحضيرًا دائمًا يشبه التحضير للمناسبات الدنيوية، ولكن هنا التحضير يكمن في السعي الروحي وليس في المظاهر.
هذا الزيت ليس شيئًا يمكن اكتسابه بسهولة أو مشاركته، بل هو ثمار الأعمال الروحية التي نجمعها من حياتنا اليومية. يظهر ذلك في طريقة تعاملنا مع الآخرين، في مدّ يد العون للفقراء، وفي صلاتنا ومحبتنا. إهمال هذه الأمور يجعلنا مثل الجاهلات اللواتي تأخرن في التحضير ولم يعد لديهن وقت كافٍ عندما حان وقت اللقاء.
عندما يأتي العريس، تكون النفوس الحكيمة جاهزة وتدخل معه إلى فرحه الأبدي، أما النفوس الجاهلة فتظل خارجًا، تقرع الباب دون فائدة. إنها اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أن الحياة ليست مجرد رحلات ونزهات وملذات عابرة، بل هي استعداد مستمر للقاء العريس. في تلك اللحظة، يكون الوقت قد فات على أي توبة أو استعداد.
الملكوت ليس بعيدًا عنّا، بل هو في متناولنا في كل لحظة من حياتنا. المسيحي مدعو إلى ترك العالم بمغرياته وراءه، وأن يعيش حياته كأنه يحيا في العرس، دائم السهر والانتظار. ولكن كم من الناس ينامون، غارقين في شؤون الدنيا، متناسين أنهم يجب أن يكونوا مستعدين؟ هذا النوم الروحي قد يضعف الإيمان ويجعل الإنسان غافلًا عن الحقيقة التي تنتظره.
العريس في طريقه، وإن لم نكن نحن في انتظار دائم له، فقد نغرق في عالمنا المادي وننسى الهدف الحقيقي من حياتنا. لقد منحنا المسيح السلام الداخلي ووضع فينا روحه الحي، ونحن مدعوون إلى أن نكون شهودًا لهذا النور، نحمله إلى العالم الذي يملأه الظلام. لكن هذا النور لا يمكن أن يضيء إلا إذا كنا نحن مستعدين ومتيقظين، مؤمنين بأن المسيح هو العريس الذي ينتظرنا، والذي سيأخذنا إلى فرح لا ينتهي.
عندما نسمع الصوت البعيد الذي ينادينا، يجب أن ننهض من سباتنا ونستعد بكل قوتنا. نحن نملك الحرية في اختيار الطريق الذي نسير فيه، ولكن يجب أن نكون واعين بأن الطريق إلى العريس مليء بالتحديات، ويتطلب منا جهدًا مستمرًا.
Share via:
