الخوري نسيم قسطون:
اختار يسوع تلاميذه من بين الناس العاديين، ليس لأنهم كانوا مميزين بذواتهم، بل لأنهم صاروا مميزين به. لم تكن اختياراته محكومة بمعايير الكفاءة البشرية، بل بقلوب قابلة للتحوّل. كانوا صيادين وعشّارين، متحمسين ومترددين، بسطاء ومتعلمين، لكنهم جميعاً حملوا شيئاً واحداً مشتركاً: الاستعداد لأن يُغيّرهم اللقاء معه.
لم ينتظر منهم الكمال منذ البداية، بل رأى في ضعفهم فرصة لنعمته. بطرس، الذي سار على الماء ثم شك، والذي شهد للمسيح ثم أنكره، أصبح صخرة الكنيسة. لم يُلغِ خطأه مسيرته، بل جعله أكثر تواضعاً وأعمق إيماناً. نتعلم منه أن السقوط ليس نهاية الطريق، بل فرصة لالتقاط الأنفاس والنهوض بقوة أكبر، ليس بقوانا، بل بثقتنا في الذي يرفعنا.
أندراوس لم يكتفِ بمعرفة الحق، بل حمله إلى أخيه. لم يكن إيمانه حبيس صدره، بل تحوّل إلى جسر يعبر عليه الآخرون نحو المسيح. كثيرون اليوم يبحثون عن الحق، لكن القليلين هم من يحوّلون هذا الحق إلى حياة يشعّ بها على من حولهم. الإيمان الذي لا يتحوّل إلى شهادة يصبح مثل نور مخبأ تحت مكيال.
يوحنا ويعقوب، اللذان طلبا المجد البشري، صارا لاحقاً من أكثر التلاميذ فهماً لعمق محبة المسيح. يعقوب قدم دمه شهادة، ويوحنا كتب بأعمق الكلمات عن لاهوت المسيح. نتعلم منهما أن الحياة لا تكتمل إلا عندما تُقدَّم هدية، وأن الكلمات تكتسب قيمتها عندما تصبح مرآة تعكس حضور الله في العالم.
فيليبس، الذي رأى في المسيح تتميم النبوات، لم يجعله هذا الفهم منغلقاً على ثقافته، بل انفتح على اليونانيين، ممّن ظنوا أنه منهم. الإيمان الأصيل لا يبني جدراناً، بل يشيّد جسوراً. والكنيسة ليست نادياً لأصحاب الثقافة الواحدة، بل بيتاً للبشرية كلها.
برتلماوس لم يقبل الإيمان بسطحية، بل سأل وتعمّق. إيمانه كان يسعى إلى الفهم، لأن الإيمان الأعمى ليس فضيلة. الله لا يخاف من أسئلتنا، بل يريدنا أن نعرفه بعقولنا وقلوبنا معاً.
توما، الذي اشتهر بشكّه، تحوّل شكه إلى اعتراف أعمق: “ربي وإلهي!”. الإيمان الحقيقي ليس هروباً من التساؤلات، بل غوصاً فيها حتى نصل إلى اليقين الذي لا يزول. المسيح لم يوبخ توما، بل جاء إليه في قلب شكوكه. هو يفعل الشيء نفسه مع كل إنسان يصرخ: “أريد أن أرى“!
متى العشار ترك كل شيء عند نظرة واحدة من المسيح. لم تكن كلمات معسولة أو وعوداً براقة هي التي جذبته، بل نظرة محبة غيرت حياته. في عالم يعبد المال والنجاح، يبقى متى مثالاً على أن السعادة الحقيقية تبدأ عندما نتبع النظرة التي تقول لنا: “أنت أهمّ من كل كنوز العالم“.
يعقوب بن حلفى فهم أن المحبة هي اللغة التي يعقلها القلب قبل العقل. كثيرون يبحثون عن إجابات فلسفية، لكنهم ينسون أن بعض الحقائق لا تُفهم إلا عندما نحب. المحبة تفتح العيون على حقائق كانت مخفية، ليس لأنها غير موجودة، بل لأن العقل وحده عاجز عن إدراكها.
تدّاوس أراد أن يرى معجزات خارقة، لكن المسيح أراه أن أعظم المعجزات هي تلك التي تحدث في صمت القلوب، وفي شركة المؤمنين، وفي خبز الحياة الذي يُكسَر كل يوم من أجل العالم. نحن نبحث عن الله في العجائب، وهو ينتظرنا في البساطة المقدسة للحياة اليومية.
سمعان الغيور تعلم أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل. الثورات السياسية والعسكرية تزول، لكن الثورة التي يحدثها الله في القلب تبقى. لا يكفي أن نغيّر الأنظمة، بل يجب أن نغيّر النفوس أولاً.
يهوذا الإسخريوطي يذكّرنا بأن الخيانة ليست بعيدة عن أيّ منا. كم مرة نبيع ضمائرنا بأقل من ثلاثين من الفضة؟ كم مرة نختار مصالحنا الصغيرة على حساب مبادئنا الكبيرة؟ الفرق بين يهوذا وبين بطرس ليس في الخطيئة، بل في ردّة الفعل. كلاهما أخطأ، لكن واحداً رأى في خطيئته نهاية، والآخر رأى فيها بداية جديدة.
لم يعد الرسل اثني عشر فقط، بل صاروا كنيسة، وصار كل مؤمن مدعواً لأن يكون رسولاً. لا يشترط الإرسالية مؤهلات خارقة، بل قلباً مستعداً ويدين مفتوحتين. الرسالة تبدأ من البيت، من الجار، من زملاء العمل، من الأماكن التي نعتبرها عادية. هناك حيث نعيش، هناك حيث نحب، هناك حيث نسقط وننهض، هناك نكون رسلاً.
المسيح لا يبحث عن أبطال، بل عن أناس عاديين يثقون بأن ضعفه يكفيهم، لأن قوته تُكمَل في الضعف. السؤال ليس: “هل أنت مؤهل؟”، بل: “هل أنت مستعد؟“.