الخوري نسيم قسطون:
في مسار حياتنا اليوميّة، نجد أنفسنا غالبًا عالقين بين الضغوطات المتزايدة والتزامات الحياة المتعددة. نُصبح مثل مرتا، منشغلين بالتفاصيل الدقيقة والهموم اليومية التي تأسر عقولنا وتبعدنا عن الجوهر الروحيّ لحياتنا. نغرق في الأعمال والمشاغل، نركض من اجتماع إلى آخر، نبحث عن الكمال في كل ما نفعله، لكننا ننسى في كثير من الأحيان أن نتوقف ونتأمل في علاقاتنا مع الله وفيما هو أبعد من الماديّات.
هذا النوع من الانشغال قد يحدّ من قدرتنا على رؤية الأمور الأهم في حياتنا. كما يقول المثل: “الشغل ما بيخلص”، قد نموت ونحن نحاول إنهاء كل ما لدينا من مهام ومسؤوليات، ولكن ما الفائدة إذا فقدنا صلتنا بالله ونفوسنا في هذه الرحلة؟ كلما زادت انشغالاتنا، زادت احتمالات أن نؤجّل الأمور الروحية، مثل الصلاة أو التأمل أو أي ممارسة تعيدنا إلى جوهر إيماننا.
لكن، كيف يمكننا أن نحقق التوازن بين حياتنا العملية والروحية؟ كيف نتجنب الوقوع في فخ التأجيل المستمر لما يتعلّق بالله؟
إنجيل هذا الأحد (لوقا 10: 38-42) يقدّم لنا دروسًا قيمة في هذا الشأن.
إنّه يدعونا إلى التفكير في الأولويات وإعادة تنظيم حياتنا بما يتناسب مع أهمية علاقتنا الروحية. مريم، في لحظة استثنائية، اختارت أن تجلس عند قدمي يسوع وتستمع له، مدركةً أن هذا هو “النصيب الأفضل”. لم يكن ذلك هروبًا من المسؤوليات، بل كان تعبيرًا عن فهم عميق لما هو ضروري في تلك اللحظة. وفي أوقات أخرى، كانت مريم ومرتا على حد سواء مشاركتين في الحياة العملية، لكن تميزت مريم بحسّ التمييز الذي جعلها تضع الأمور الروحية فوق الأمور الدنيوية.
ما بين مريم ومرتا، يمكننا أن نرى انعكاسًا لأنفسنا. في بعض الأحيان، نكون مثل مريم، قريبين من الله، نختار أن نأخذ لحظة للتأمل والتواصل مع الروح. ولكن في كثير من الأحيان، نجد أنفسنا مثل مرتا، متورطين في الانشغالات اليومية، نضع الله في المرتبة الثانية أو الثالثة، أو حتى نتجاهله تمامًا.
إن إعادة تنظيم حياتنا يتطلب منا أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن ما يجعلنا مضطربين ومنشغلين. هل نترك أنفسنا تحت رحمة الروتين اليومي؟ هل نسمح للمهام الدنيوية بأن تسرق منا لحظات ثمينة مع الله؟ علينا أن نسعى جاهدين لتخصيص وقت للجلوس مع الله، حتى لو كانت الحياة مليئة بالمهام. ليس المطلوب منا التفرّغ الدائم للصلاة، ولكن من الضروري أن نغرف من نبع الصلاة القوة اللازمة لعملنا الاجتماعيّ.
في النهاية، إن ما نحتاج إليه هو إعادة النظر في كيفية تقسيم وقتنا وطاقتنا. ليس فقط من أجل الراحة الجسدية والعقلية، ولكن أيضًا من أجل تغذية أرواحنا بما هو ضروري لعيش حياة متوازنة ومثمرة. هذا التوازن بين العمل الروحي والاجتماعي هو ما سيعطي لحياتنا معنى أعمق وأبعد من الإنجازات المادية.
دعونا نُذَكّر أنفسنا بأن الحياة ليست مجرد سباق لتحقيق الأهداف الدنيوية، بل هي رحلة نحو الخلاص، تتطلب منا أن نكون واعين لأولوياتنا، وأن نمنح الأمور الروحية الأهمية التي تستحقها. بين مريم ومرتا، نملك الخيار، ولكن القرار الصحيح يتطلب منا التمييز والتفكير العميق فيما هو حقًا ضروري لحياتنا ولعلاقتنا مع الله.
Share via: