الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

You are currently viewing الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

الخوري نسيم قسطون:

في لحظةٍ من السكون، يدخل يسوع إلى بيتٍ لا يطلب منه إثباتًا أو معجزة، بل يقدّم له ما هو أعمق من الضيافة: الحضور.

هناك، بين جدران بيت عنيا، تتجلّى علاقة لا تُبنى على الأعجوبة، بل على الإلفة، حيث يصبح اللقاء فرصةً للتمييز لا للمقارنة، وللإصغاء لا للانشغال.

في هذا المشهد (لوقا 10: 38-42)، لا يُطلب من الإنسان أن يختار بين التأمّل والعمل، بل أن يعرف متى يقدّم لكلّ منهما مكانه. فمريم لم تهرب من الخدمة، بل عرفت أن اللحظة تستدعي الإصغاء، ومرتا لم تُخطئ في العمل، بل في توقيته. إنّ التحدّي لا يكمن في المفاضلة بينهما، بل في إدراك اللحظة التي يدعونا فيها الربّ إلى الجلوس لا إلى الحركة، إلى السكون لا إلى الإنجاز.

كم من مرّة نُخطئ في قراءة اللحظة؟ نُسرع إلى العمل خوفًا من الفراغ، نملأ الوقت بالمهام كي لا نواجه الصمت، نُفضّل الضجيج على الكلمة، ونُخضع علاقتنا بالله لمقياس الإنتاجيّة. ولكن، هل يُقاس الحبّ بالإنجاز؟ وهل تُقاس العلاقة بالعدد؟ يسوع لا يطلب منّا أن نُثبت له شيئًا، بل أن نكون معه، أن نُصغي، أن نُحبّ، أن نُميّز.

في زمنٍ يلهث فيه الإنسان وراء المواعيد والنتائج، يأتينا هذا النصّ كدعوة إلى التوقّف، لا عن العمل، بل عن التشتّت. فليس كلّ انشغالٍ خدمة، وليس كلّ حركةٍ تعبّدًا. هناك لحظات لا تُثمر فيها اليد إن لم تسبقها العين، ولا ينفع فيها الكلام إن لم يسبقه الإصغاء. مريم لم تكن تتأمّل هربًا، بل كانت تلتقط اللحظة، وتُدرك أنّ الكلمة التي تُقال الآن لن تُقال غدًا، وأنّ الحضور الإلهي لا يُؤجَّل.

من هنا، يصبح النصّ مرآةً لحياتنا: هل نعرف كيف نُصغي؟ هل نُدرك متى نتوقّف؟ هل نُعطي الأولويّة لما يُغذّي الروح قبل الجسد؟ وهل نسمح لله أن يكون في وسطنا لا على هامشنا؟ فالعلاقة مع الله ليست مناسبة نُدرجها في جدولنا، بل هي النور الذي يُضيء هذا الجدول، ويُعطي لكلّ لحظة معناها.

في النهاية، لا يُطلب منّا أن نكون مريم أو مرتا، بل أن نكون حقيقيّين، أن نُصغي حين يُدعونا الربّ، وأن نعمل حين يُرسلنا. فالحياة الروحيّة ليست انقسامًا بين التأمّل والخدمة، بل انسجامًا بينهما، حين يُصبح كلّ عملٍ صلاة، وكلّ صلاةٍ استعدادًا للعمل.

اترك تعليقاً