الأحد الرابع للفصح

You are currently viewing الأحد الرابع للفصح

الخوري نسيم قسطون:

بعد أحداث القيامة المجيدة، تظهر لنا قصة ظهور يسوع على بحيرة طبرية عمق العلاقة بين الإلهي والإنساني، وكيف أن حضور الرب يُعيد تشكيل مسار حياتنا حتى في تفاصيلها اليومية. لم يكن الصيد مجرد عمل روتيني للتلاميذ، بل تحوّل إلى درس روحي عميق عن معنى الوجود والرسالة.

في العودة إلى البحر، نرى بطرس والتلاميذ يعودون إلى ما اعتادوا عليه قبل أن يلتقوا بالمسيح (يوحنّا 21: 1-14)، وكأن القيامة لم تحدث بعد. لكن فشلهم في صيد السمك يرمز إلى عقم الحياة بمعزل عن الرب. فحتى مهاراتهم البشرية، التي كانت مصدر رزقهم، تعجز عندما تفقد ارتباطها بالغاية الأعمق. هنا يتجلى السؤال الجوهري: هل نعمل من أجل الخبز وحده، أم من أجل الخبز الذي يُعطي الحياة الأبدية؟

يأتي الحل من حيث لا يتوقعون. فالغريب الذي يظهر على الشاطئ لا يقدم لهم سمكاً جاهزاً، بل يرشدهم إلى حيث يجب أن يلقوا شباكهم. إنه درس في التواضع والثقة: فحتى الخبراء يحتاجون إلى كلمة الرب لتحقيق النجاح. والأعجب أن الشبكة، التي ظلت فارغة طوال الليل، امتلأت فجأة عندما أطاعوا توجيهاته. هكذا تكون بركات الله غير محسوبة حين نتبع إرشاده، حتى لو بدت الأوامر بسيطة أو غير منطقية في نظرنا.

عندما يصلون إلى الشاطئ، يجدون ناراً مشتعلة وطعاماً معداً. فالرب لا يطلب منهم جهداً ليقدموا له شيئاً، بل هو الذي يعد لهم ما يحتاجون. ومع ذلك، يطلب منهم أن يشاركوا بما أخذوه، وكأنه يقول: “أعطوني من فضل ما منحتُكم إياه”. هنا تكمن فلسفة العطاء المسيحي: فكل ما نملكه هو هبة من الله، وعندما نعيد إليه جزءاً منها، نعترف بفضله ونشارك في تدبيره المحب.

قصة بطرس، الذي ألقى بنفسه في الماء ليلاقي الرب، تذكرنا بأن الإيمان الحقيقي لا يتردد. فبعد كل زلاته وضعفه، ها هو يثبّت نظرته على المسيح وحده. إنها صورة للإنسان الذي يتعلم أن يحوّل تردده إلى حماسة، وخوفه إلى شجاعة. فالله لا ينتظر منا الكمال، بل القلب المستعد لسماع ندائه والاستجابة له، حتى لو كانت الاستجابة متعثرة.

في النهاية، لا يكتفي يسوع بإشباع جوعهم الجسدي، بل يوجه بطرس إلى رسالته الأسمى: “ارعَ خرافي”. فبعد أن أشبعه الرب، صار عليه أن يطعم الآخرين. هكذا يصبح الطعام على الشاطئ رمزاً لوليمة الملكوت، حيث يُدعى الجميع إلى المشاركة، ويُطلب من التلاميذ أن يكونوا وسطاء في هذه الدعوة.

هذه القصة تختزل جوهر المسيحية: فالله لا يلغِ حياتنا اليومية، بل يقدسها. لا يهمل احتياجاتنا المادية، لكنه يرفعها إلى مستوى أعمق. يدعونا إلى العمل، لكنه يملأه بمعنى. ويبقى السؤال الذي يوجهه إلينا اليوم كما وجهه للتلاميذ: “هل عندكم شيء؟” فإن اعترفنا بأننا فقراء، سنسمعه يقول: “ألقوا شباككم”. وعندها، سنفهم أن الفرح الحقيقي يكمن في أن نجد في يديه أكثر مما حلمنا به.

اترك تعليقاً