الأحد السابع والأخير بعد عيد الصليب

الخوري نسيم قسطون:

عندما يتأمّل الإنسان في الكتاب المقدّس، يجد نفسه أمام دعوة صريحة إلى التخلّص من الأنانيّة والانفتاح على الآخر.

هذه الدعوة تتجلّى بوضوح فيما علّمنا إياه المسيح عن المحبّة والخدمة. الله، الذي يعرف ضعف الإنسان، لم يتركه وحيدًا في مواجهة تحدّيات الحياة بل أرسل له ابنه ليكون المخلّص والمرشد.

في هذا السياق، يمكن فهم الإنجيل على أنّه وصفة روحيّة للشفاء من أمراض النفس. مثلما يذهب المريض إلى الطبيب للحصول على الدواء، يقدّم المسيح للبشريّة العلاج من الأنانيّة ومن كل ما يبعد الإنسان عن الله والآخرين، وذلك من خلال دعوته إلى المحبّة.

الإنسان، في حياته اليومية، يجد نفسه في مواقف تستدعي المحبّة والرأفة، ليس فقط تجاه الغرباء بل أيضًا تجاه الأقربين. هذا هو التحدّي الأكبر، إذ يعلّمنا المسيح أنّه ليس من الصعب محبّة من يحبّوننا، بل المحبّة الحقيقية تظهر عندما نمدّ يد العون لمن قد نواجه صعوبات في التعامل معهم. في هذا، نرى أنّ المسيح يضع معاييرًا مختلفة عن تلك التي اعتدنا عليها في العالم. فهو يدعونا إلى النظر إلى العائلة، والمجتمع، والعمل، ليس كمجرّد محيطات نعيش فيها، بل كأماكن يمكننا من خلالها تحقيق القداسة.

القداسة، إذًا، ليست أمرًا بعيد المنال، بل يمكن أن تبدأ بأفعال بسيطة في حياتنا اليومية. قد يكون الأمر مجرّد تسامح مع تقصير بسيط من أحد أفراد العائلة، أو تأجيل نقد قد يؤذي مشاعر شخص آخر. كل هذه الأمور الصغيرة هي خطوات على طريق القداسة. إنّها تجسيد عملي لتعاليم المسيح الذي يدعونا إلى أن نكون أداة للمحبّة في كلّ مكان وزمان.

على مستوى أعمق، يتجلّى الإنجيل في دعوة كلّ إنسان إلى اكتشاف مواهبه ووضعها في خدمة الجماعة، كما ورد في مثل الوزنات، فالمحبّة ليست فقط شعورًا داخليًا بل هي فعل يتجلّى من خلال أعمال ملموسة.

عندما نتأمّل في السؤال “ماذا سنترك خلفنا ليذكّر بنا؟”، نرى أنّ الجواب يتعلّق بما نقدّمه للآخرين. الأعمال التي نتركها وراءنا هي الشهادة الحقيقية لحياتنا. فالإنسان يُخلّد من خلال الأعمال الصالحة التي تترك أثرًا إيجابيًا على المجتمع. والمحبّة هي المفتاح لتحقيق ذلك.

ومن هنا، يتبادر إلى الذهن مفهوم “خريطة الطريق الروحيّة” التي تقودنا إلى السماء. هذه الخريطة تبدأ وتنتهي بالمحبّة. القديس يوحنا الصليب لخصّ الأمر بقوله إنّنا في نهاية حياتنا سوف نُدان على مقدار الحبّ الذي قدّمناه. من يريد أن يكون مع الله عليه أن يعيش المحبّة مع النّاس. العلاقة مع الله ليست منفصلة عن العلاقة مع الآخرين، بل هي جزء لا يتجزأ منها.

إنّ إنجيل هذا الأحد (متى 25: 31-46)، أحد يسوع الملك، لا يدعونا فقط إلى المحبّة النظريّة بل إلى العمل من أجل خير الآخرين. من خلال الأعمال الخيريّة، نعبّر عن إيماننا ونترجم علاقتنا بالله. ولكنّ هذه الأعمال لا تكون فعّالة إذا كانت خالية من محبّة الله. لا يكفي أن نقوم بأعمال خير، بل يجب أن تكون هذه الأعمال مدفوعة بحبّنا لله. ومن خلال هذه المحبّة، نتمكّن من مساعدة الآخرين بشكل أعمق وأكثر تأثيرًا.

في هذا الإطار، قال البابا فرنسيس في عظته الصباحية في 16 تمّوز 2015: “عندما نساعد الفقراء، نقوم بعمل خير فهو عمل إحسان وإنساني وكل أعمال الخير هي جيدة وإنسانية إنما هذا ليس الفقر المسيحي الذي يتحدّث عنه القديس بولس ويبشّر به. إنّ الفقر المسيحي هو أن أعطي من حاجتي للآخرين وليس من الفائض الذي أملكه مدركًا بأنّ الفقير هو من يغنيني وليس العكس. وإن كنت تسأل: كيف أغتني من الفقراء؟ الجواب: لأنّ يسوع بذاته هو في كل فقير”…

تجسيد هذه المحبّة يتطلّب منا وعيًا كبيرًا لما يدور حولنا. فالعالم مليء بالحاجات التي تنتظر من يلبيها. وهنا نعود إلى مفهوم القداسة في الحياة اليوميّة. القداسة لا تُعاش فقط في الصلوات والطقوس، بل تتجلّى بسكلٍ أساسيّ في الأفعال التي نقوم بها تجاه الآخرين. الصلاة تقوّينا، ولكنّ العمل تجاه الآخرين يكمّل هذه الصلاة ويعطيها معناها الحقيقي.

بالمقابل، من الخطأ أن نعتقد أنّ بإمكاننا تحقيق الخلاص عبر أحد الطرفين فقط، إمّا الصلاة وإمّا الأعمال الخيريّة. منذ أن تجسّد المسيح، أصبح مستحيلًا الفصل بين الله والإنسان. محبّة الله تقتضي محبّة الإنسان، والعكس صحيح. العلاقة مع الله تتطلب علاقة صادقة مع الآخرين، والعلاقة مع الآخرين لا تكون كاملة إلّا إذا كانت مبنيّة على محبّة الله.

في النهاية، إنّ إنجيل هذا الأحد، يدعونا للتأمّل في هذه الحقيقة العميقة: المحبّة هي الأساس. الله أعطى الإنسان هذه القدرة العظيمة على الحبّ، ولكنّه دعاه أيضًا إلى أن يخرج من أنانيّته ويستخدم هذا الحبّ لخدمة الآخرين. ليست المحبّة مجرّد شعور عابر، بل هي فعل دائم يتطلّب تضحية وتفانيًا. ومن خلال هذه المحبّة، يمكن للإنسان أن يقترب من الله وأن يسير على طريق القداسة.

 

نختم تأملنا اليوم بكلمات الأسقف القدّيس أوسكار روميرو: “كلّ إنسانٍ صورة لخالقه. وما يصيب الإنسان يصيب الله… فلا تمييز بين صورة الله والإنسان. والّذي يعذّب إنساناً، والّذي يهين إنساناً، والّذي يلقي على إنسان مسؤوليّة أمرٍ سيّء، يفعل ذلك بالله” (كتاب الثائر الأعزل للأب سامي حلّاق من دار المشرق، طبعة أولى، سنة 1993، صفحة 34).

اترك تعليقاً