الأحد السادس – أحد النسبة

You are currently viewing الأحد السادس – أحد النسبة

قراءة سلسلة نسب يسوع كما وردت في إنجيل متى ليست مجرّد تمرينٍ على التّاريخ أو إعادة لتعداد أسماء نعرفها أو لا نعرفها. إنّها وقفة تأمّل عميقة تدعونا إلى الغوص في رسالة الخلاص التي شملت كلّ البشريّة دون استثناء. عندما نتأمّل في هذه الأسماء، نرى أمامنا لوحة بشريّة متنوّعة تشمل الغنيّ والفقير، البارّ والخاطئ، الحاكم والمحكوم، الرّجل والمرأة. هذا التنوّع ليس عبثيًّا، بل هو شهادة حيّة على رسالة المسيح التي تخاطب الجميع وتدعوهم إلى حياة جديدة في الله.

يسوع، ابن داود وابن إبراهيم، لا يحمل فقط وعود الله لشعبٍ محدّد، بل يفتح باب الرجاء لكلّ من يؤمن به. في هذا النسب، نجد أسماء خطأة مثل راحاب وداود، وأبرارًا مثل إبراهيم ويوسف. هذا المزيج يُظهر أنّ الله قادر على العمل من خلال ضعف الإنسان وخطيئته لتحقيق خطّته الإلهيّة. الخلاص ليس حكرًا على الأبرار، بل هو نداء مفتوح للجميع، بما فيهم من يشعرون بثقل أخطائهم.

رسالة نسب يسوع هي دعوة للتصالح مع الماضي. ليس المطلوب أن نتنكّر لأصولنا أو نتبرّأ من أخطائنا، بل أن نرى في هذه الأصول فرصة للتغيير وفي الأخطاء مجالاً للنعمة الإلهيّة. يسوع لم ينكر نسبه أو يتجاهل تاريخ أسلافه، بل قبله وأكمله بحياة القداسة والطاعة لمشيئة الله. إنّ هذا القبول هو دعوة لنا لنواجه أنفسنا بشجاعة، ونسلّم حياتنا لله الذي يحوّل الخطيئة إلى نعمة والضعف إلى قوّة.

عندما ننظر إلى نسب يسوع، ندرك أنّ الخلاص ليس مشروعًا فرديًّا بل جماعيّ. كلّ واحدٍ منّا مدعوّ لأن يكون جزءًا من هذا النسب الرّوحيّ الجديد الذي أسّسه المسيح. ليس بالضرورة أن تكون بطلاً عظيمًا أو قديسًا معروفًا لتكون شاهدًا للربّ. يكفي أن تقبل دعوتك وتعمل بما لديك من مواهب وإمكانات. كما قال يسوع: “من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي”. إذاً، الانتماء إلى عائلة يسوع لا يقوم على أساس النسب الجسديّ، بل على أساس الطاعة لمشيئة الله.

هذه السلسلة من الأسماء تذكّرنا أيضاً بأنّ الله لا يميّز بين الطبقات أو الفئات. فهو دعا الرعاة والبسطاء كما الملوك والعظماء ليكونوا جزءًا من خطّته. هذه الدعوة الشاملة تحطّم الحواجز التي يضعها البشر بين بعضهم البعض، سواء كانت بسبب الجنس أو الطبقة الاجتماعيّة أو الخلفيّة الثقافيّة. إنّها دعوة للوحدة في المسيح الذي جاء ليجمع أبناء الله المشتّتين إلى واحد.

لكن ماذا يعني لنا اليوم أن نكون من نسل يسوع الرّوحيّ؟ الجواب يكمن في حياتنا اليومية، في استعدادنا لعيش الإنجيل بصدق وأمانة. أن تكون من نسل يسوع يعني أن تتبنّى قيمه في حياتك: المحبّة، التواضع، الخدمة، والغفران. يعني أن تضع الله أوّلاً في كلّ قراراتك وأفعالك، وأن تسعى لنقل هذه القيم لمن حولك.

قد تكون دعوة يسوع صعبة في زمنٍ تغلب فيه المظاهر والأنانيّة، لكنّها دعوة تمنح السلام والفرح الحقيقيّين. أن تتبع يسوع يعني أن تقبل بأن تكون مختلفًا، أن ترفض أن تعيش وفق معايير العالم وأن تسعى لتعيش وفق معايير الله. هذا الاختلاف ليس رفضًا للعالم، بل هو شهادة على نور الله الذي يريد أن يبدّد ظلمة الخطيئة والأنانيّة.

في هذا السياق، يمكننا أن نسأل أنفسنا: كيف نعيش دعوتنا كشهود للمسيح؟ هل نحن على استعداد للتخلي عن راحتنا الشخصيّة لخدمة الآخرين؟ هل نجرؤ على الاعتراف بخطايانا والتوبة عنها؟ هل نحن مستعدّون لنكون علامات رجاء وسلام في عالمٍ يتخبّط في الظلام؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي ما يحدّد مدى انتمائنا الحقيقيّ إلى نسب يسوع الرّوحيّ.

قبل عيد الميلاد، ندعى جميعًا إلى التأمّل في معنى التجسّد. يسوع، الذي اتّخذ إنسانيّتنا بكلّ ضعفها وألمها، يدعونا لنشاركه في رسالته. لا يُطلب منّا الكمال، بل يُطلب منّا الاستعداد للسير معه بخطوات صغيرة وثابتة. عندما نفتح قلوبنا له، نستطيع أن نشارك في تحويل العالم من خلال المحبّة والغفران.

إنّها دعوة لكلّ واحدٍ منّا لأن يضع ذاته في خدمة الآخرين، لأن يزرع الأمل في قلوب اليائسين، لأن يشارك الفقراء والمحتاجين من بركات الله عليه. عندما نعيش بهذه الطريقة، نصبح حقًّا أبناءً وبناتًا لله، ونشارك في النسب الروحيّ الذي بدأ مع يسوع ولا يزال مستمرًا حتى اليوم.

في النهاية، نسب يسوع ليس مجرّد تعدادٍ لأسماء، بل هو قصّة الخلاص التي تستمرّ في حياة كلّ مؤمن. إذاً، لنقبل الدعوة ولنكن جزءًا من هذه القصّة العظيمة التي كتبها الله بمحبّته ويكتبها اليوم من خلالنا. فلنسمح لنور المسيح أن يشرق في حياتنا ويقودنا إلى حياةٍ تمجّد الله وتشهد لنعمة الخلاص.

اترك تعليقاً