الأحد السادس من زمن العنصرة

You are currently viewing الأحد السادس من زمن العنصرة

الخوري نسيم قسطون:

حين ينطق المسيح بكلماتٍ تبدو صعبة على الأذن البشريّة، فإنّه لا يزرع الخوف بقدر ما يفتح أعيننا على حقيقةٍ لا مهرب منها: من يسلك طريقه لا يسير في دربٍ مفروشٍ بالورود، بل في مسارٍ محفوفٍ بالتحدّيات التي تخلّصه من وهم الراحة وتزرعه عميقًا في أرض الرجاء والثبات. في قلب هذه الدعوة، لا مجال للخوف إن أدركنا أن الله لا يرسل أبناءه وحدهم، بل يزرع في داخلهم روحًا قادرًا أن ينطق حين يسكت اللسان ويقوى حين تخور العزائم.

ما يعنيه يسوع حين شبّهنا بالخراف وسط الذئاب (متى 10: 16-25) لم يكن إهانةً أو استضعافًا بل تشديدًا على ضرورة البقاء أوفياء للطبع الوديع حتى وسط عالمٍ ينهش فيه الأقوى الضعيف. وفي الوقت نفسه، حمّلنا مسؤوليّة أن نكون حكماء كالحيات، أي أن نعرف متى نختبئ ومتى نواجه، متى نصمت ومتى نتكلّم. ليست المسألة تضادًّا بين الوداعة والقوّة، بل تزاوجًا يخلق في المؤمن بصيرةً تمكّنه من الثبات دون أن يتحوّل ذئبًا آخر.

وفي عصرنا، لم يعد العذاب جسديًّا فحسب، بل صار السلاح أخطر: كلمة ساخرة، تشويه سمعة، تسخيف قيمٍ وأخلاق. صار المؤمن عرضةً للتهكّم لا لأنّه يفتقر إلى المنطق، بل لأنّ منطقه يفضح تهافت القيم الفارغة التي يروّج لها بعضهم. هنا بالذات يكشف الإنجيل سرّ القوّة: لا تحتاج أن تجاري موجة السخرية، بل أن تصغي إلى الهمسة العميقة في داخلك، تلك التي يعدك بها يسوع: “روح أبيكم هو المتكلّم فيكم”.

لا يعني هذا ألّا نتألّم. تألّم الرسل والقدّيسون ولم تُرفع عنهم كأس المرارة، بل شربوها ممتلئين برجاءٍ لم يخنق أرواحهم. لذلك، ليس المطلوب منّا بطولة خارقة بل ثباتًا صغيرًا يتكرّر كل يوم: أن تختار الصدق حين يغريك الكذب، أن تظلّ عفيفًا حين يستخفّ بك البعض، أن تبقى نقيًّا في كلامك حين يُعتبر السوقيّون «طبيعيّين». هذه الشهادات الصغيرة تصنع من كلّ مؤمن علامة حيّة تشهد للمعلّم الذي سار أمامنا.

إنّ أكبر تهديد يواجهنا ليس اضطهادًا من الخارج فقط، بل تفتّتًا من الداخل حين نفقد وحدة القطيع ونسمح للأنانيّة أن تنخرنا فنغدو ذئابًا لبعضنا البعض. حينها نصير كما قال يسوع: الأخ يسلم أخاه والابن ينقلب على أبيه. وحدها المحبّة الواعية تجعلنا نتماسك كخرافٍ تعرف لمن تتبع وأين تمضي وسط غابةٍ متعطّشة للفرائس.

ليس من السهل أن تحمل رجاءً في عالمٍ يكرّر في أذنك أن الألم بلا معنى. لكنّنا نتعلّم من المسيح أنّ الألم ليس نهاية بل معبر. الصليب صار خشبة حياة لأنّ المعلّم لم يتراجع حين تجسّد الألم في جسده بل حوله إلى سرّ قيامة. لهذا، لا يطلب منّا أن نبحث عن العذاب بل ألّا نهرب من ثقل شهادتنا إن لزم الأمر.

ووسط هذا كلّه، يضعنا الإنجيل أمام امتحان الضمير: ماذا ينفعنا إن كسبنا احترام الناس وخسرنا حقيقتنا؟ ما جدوى أن نساير عصرًا يستهلك القيم سريعًا ويطرحها حين تنتهي مصلحته؟ وحده الإيمان المتجدّد كل صباح يجعلنا نرفع رؤوسنا وسط السخرية لنقول للعالم: نحن نحيا من كلمة لا تبلى ولا نتكّل على موضةٍ تزول.

هكذا يصبح كلام المسيح ليس تهديدًا بل حماية: «إيّاكم أن تفقدوا الوداعة. إيّاكم أن تخسروا الحكمة. إيّاكم أن تفقدوا الثقة بأنّني معكم حتّى إن خذلكم الجميع». وما أكثر لحظاتٍ في حياة المؤمن يشعر فيها بأنّه وحيد معلّقٌ على صليبه الخاصّ. لكن خلف كلّ صمتٍ هناك حضور خفيّ لروحٍ يُلهم الكلام والصلاة والتجلّد.

لذلك، لا يطلب منّا الربّ أن نكون أكثر من معلّمنا، بل أن نشبهه في الثبات والشهادة وفي الإيمان بأنّ الألم لن يكون آخر كلمة، بل البداية الصامتة لانتصارٍ لا يعرفه إلّا من نظر إلى المصلوب فعرف أنّ خلف الجلجلة قيامة.

فلنحمل هذه الكلمة معنا: لن نكون ذئابًا في عالم الذئاب، بل خرافًا تعرف حكمة الحيّة ووداعة الحمام وقوّة الرّوح الّذي لا ينطفئ. بهذه الطريقة وحدها، نخرج من كلّ اضطهادٍ أكثر وعيًا بحقيقة رجائنا: إلهنا معنا، فنحن لسنا وحدنا أبدًا.

اترك تعليقاً