الجمعة العظيمة

You are currently viewing الجمعة العظيمة

الخوري نسيم قسطون:

في ظهيرة ذلك اليوم، عندما أظلمت الشمس وخيّم الصمت على الأرض، مات الله. نعم، مات الإله الذي تجسّد ليحيي، الذي نزل من السماء ليرفعنا إليها. لقد صرخ “قد أكمل” وأسلم الروح، وكأن الكون توقف عن النبض للحظة. لكن هذه النهاية الظاهرة كانت بداية النصر الأعمق في تاريخ البشرية.

نحن اليوم أمام مفارقة عجيبة: الفرح بموت من أحبنا حتى الموت! البعض يرى في الصليب نهاية الإله المزعج الذي كان يطالبنا بالمحبة والغفران، الذي كان يدعونا إلى حياة أسمى من شهواتنا الزائلة. لكن الحقيقة أن الصليب كان بوابة الله إلى قلوبنا. لقد اختار أن يموت ليس لأنه عاجز، بل لأنه قوي بما يكفي ليحب حتى هذا الحد.

الجنود الذين وقفوا عند الصليب رأوا جثة معلقة. لكننا نرى أكثر من ذلك: نرى الحب المتجسد يعلن انتصاره النهائي على الكراهية. نرى العدالة الإلهية تتحقق ليس بالانتقام، بل بالغفران. نرى الملك الذي يملك من على الصليب، متوجاً بأشواكنا لا بأكاليل المجد.

في تلك اللحظات الأخيرة، كان يسوع يغيّر معنى الموت نفسه. لم يعد الموت نهاية، بل أصبح عبوراً. لم يعد عدوًا، بل صار بابًا. “اليوم تكون معي في الفردوس”، هذه الكلمات التي قالها للص التائب هي جوهر رسالة الصليب: الموت ليس النهاية، بل البداية.

لكن الصليب يطرح علينا سؤالاً مصيرياً: ماذا سنفعل بهذا الحب؟ هل سنقف مثل الجموع نشاهد من بعيد؟ هل سنكون مثل التلاميذ الذين هربوا خوفاً؟ أم سنكون مثل يوحنا الحبيب الذي وقف عند الصليب، ومريم التي احتملت الألم بصمت؟

الحقيقة أن الصليب يديننا قبل أن يخلصنا. فهو يكشف قسوة قلوبنا، أنانيتنا، خوفنا، جبننا. لكنه في نفس الوقت يقدم لنا العلاج: الحب الذي يغفر، الذي يتحمل، الذي يموت من أجل الآخر.

اليوم، ونحن ننظر إلى الصليب، لنسأل أنفسنا: أي نوع من الموت نحتاج؟ الموت عن أنانيتنا، عن كبريائنا، عن خطايانا؟ لأن القيامة تبدأ فقط عندما نموت عن ذواتنا القديمة. “من أراد أن يخلّص حياته يخسرها، ومن يخسرها من أجلي يجدها”.

الصليب فارغ الآن. الجسد نُزِلَ عنه. لكن رسالته باقية: هذا هو مقدار حبي لكم. فإلى متى ستظلون بعيدين؟ إلى متى ستختارون الموت على الحياة؟ إلى متى ستصرّون على عبادة الأصنام الزائلة بينما أنا هنا، محبوبة إلى المنتهى؟

اليوم، الصليب يدعونا جميعاً: تعالوا، اقتربوا، لا تخافوا. لقد دفع الثمن كاملاً. الآن كل ما يطلبه هو قلوبكم. فهل ستقدمونها له؟

جمعة عظيمة مباركة!

اترك تعليقاً