الجمعة العظيمة

الخوري نسيم قسطون:

اليوم، الأرض في عطلةٍ رسميّة والناس منشغلون في إعداد دفنٍ لائق لمن أعطاهم كلّ شيء: جسده قرباناً وروحه ميراثاً وأمّه شفيعةً وتلاميذه كنيسة!

تاريخيّاً، مثل هذا اليوم، مات الله!

مات الربّ يسوع مرّةً واحدة في ذلك اليوم، يوم الجمعة الّذي أصبح من يومها عظيمًا، على الصليب في الجلجلة…

أليس ذلك غريبًا؟

لِمَ قرّر الله أن يموت هكذا؟

هل رغب الله في الانتحار يأساً من الحياة ومآسيها أو من البشريّة وخطاياها؟

هل شبع من العمر وقد سبق البداية؟ هل “ختير” فقرّر الانسحاب؟

هل يعقل أن يختار الله هذه الطريقة الشنيعة للانسحاب من الحياة وقد كان بوسعه الاختفاء بكلّ بساطة؟

ولكنّه الله!

ألا يعقل بأنّه أراد أن “يقول” شيئاً من خلال ما فعله؟

ألا يعقل بأن الهزيمة الظاهرة أخفت خطّة الربّ لتحقيق الانتصار الأعظم في تاريخ البشريّة؟

ألا يعقل بأنّه تخطّى كلّ حدود المنطق البشريّ المحدود في الزمان والمكان ليحقّق ما يتخطّى كلّ الحدود الزمنيّة والمكانيّة؟

إذا كان أحد هذه الأسئلة معقولاً بنظرنا فنحن مدعوّون إلى التنبّه جيّداً إلى جملة الأحداث التي جرت اليوم والتي، رغم فظاعتها، ستقودنا إلى شكر المجرمين:

  • يهوذا الإسخريوطي لأنّه سلّم إلهه الحقيقيّ إلى يد الحاقدين مختارًا أن يعبد المال لا الله!
  • رؤساء الكهنة والكهنة والفرّيسيّيون والصدوقيّون لأنّهم خدمونا بحقدهم الّذي أعطانا، ولو من دون قصدهم، الخلاص بآلام موت الربّ وموته الّذي منحنا فيض نعم القيامة…
  • بيلاطس البنطي لأنّه بجبنه وبتخاذله سمح لأمّة “شعب الله المختار” أن تخون الله عبر قتل ابنه الوحيد…
  • جنود روما لأنّهم حرسوا إلهنا وهو يقود مسيرة الخلاص من أجلنا في موكب موته بنظرهم ونظر أعدائه وموكب القيامة بالنسبة لإيماننا…
  • الجندي الرّوماني لأنّه طعن الربّ يسوع بحربته ففاض دمه على أرضنا لينقّيها بالمحبّة وسال ماؤه ليسقيها من الرّجاء…

لننظر اليوم ولنتأمّل بالمصلوب الّذي:

  • حقّق ما دعا إليه فغفر لأعدائه ولكلّ من أساء إليه مبرّراً إياهم بأنّهم “لا يدرون ماذا يفعلون”!
  • شرّع أبواب الملكوت أمام كلّ تائب ولو كان من أدهى اللصوص!
  • أظهر أن الموت والألم يرافقان الحياة ولكنّهما يتوقفان لحظة الموت بينما الحياة تستمرّ بعد الموت فهو قال للصّ التائب: “اليوم ستكون معي في الملكوت”!
  • حقّق وعده للسامريّة إذ تحدّث عن ماءٍ يشرب منه الإنسان ولا يعطش وهو ماء الحياة الذي سال من خاصرته فوق الصليب!
  • ظلّ حتى الرمق الأخير فياضاً بالحنان فاهتمّ بأمه وبالتلميذ الحبيب بدل أن يهتما هما به!
  • غادر الحياة بالجسد بعد أن سلّمنا أهم ما عنده: الروح! فهو أسلمه لا بمعنى أنّه مات كما قد نظنّ بل بمعنى أنّه سلّمه كما قصد يوحنّا في إنجيله حيث مات يسوع وقام ومنح الروح في آنٍ معاً!

 

علينا اليوم أن تتّخذ قرارًا جريئاً: فإمّا أن نكون ممّن سيشاهدون أكبر جريمة في التاريخ دون أن يتحرّكوا… وإمّا أن نكون ممّن سيرون في كلّ متألّم او مجروح أو مظلوم وجه المسيح المتألّم والمصلوب الّذي يثق بأنّنا كيوحنّا ستهتمّ بمريم، صورة الكنيسة، فتحضن كلّ محتاجٍ إلى قلبك حيث يريد المسيح أن يسكن ويطيب له ان يقيم!

يا ريتنا نكون اليوم في عداد موكب الصلب المؤدّي إلى القيامة كسمعان القيرواني، نحمل عن يسوع صليب بعض النّاس المتألّمين في محيطنا وعائلاتنا وقرانا ومدننا… فمنهم من بحاجة لابتسامة ومنهم من هو بحاجة لكلمة تعاطف أو تعاضد ومنهم من بحاجة إلى تشجيع كي يتابع المسير ويقوى على متابعة المسير…

فلنقف اليوم مع مريم ويوحنّا قرب الربّ المتألّم لنشبع عينينا من مجده المجروح بالدماء الرّوحيّة التي نسبّبها له بنقص محبّتنا له وللقريب…

فلنخشع أمام عرش الصليب في حضرة الملك السّماوي الّذي “مات فينا” حبًّا فمات حقًّا “من أجلنا ومن أجل خلاصنا”…

فلننظر إلى الصليب الّذي سيفرغ ليصبح علامة نصر الحياة على الموت ونصر المحبّة على الحقد ونصر الرّجاء على اليأس ونصر الإيمان على الشكّ لأنّ هذا الرجل الميت أمامنا هو حقًّا إبن الله الحيّ إلى أبد الآبدين!

إن فكّرنا هكذا، ستكون جمعتنا حقًّا عظيمة لأنّنا سنكون قد غلبنا موتنا بموت المسيح عنّا!

من على الصليب، فتح الربّ لنا من جديد أبواب الملكوت… فهلمّ نقرع الباب ونموت عن كلّ ما يميت الله في حياتنا فنستحقّ أن نقوم معه إلى الحياة التي لا تنتهي!

 

اترك تعليقاً