الحقّ الذي يحرّر لا يجرح

You are currently viewing الحقّ الذي يحرّر لا يجرح
المطران سعد سيروب حنا-
نتحدّث كثيرًا عن الحقيقة، ونستشهد بكلمة يسوع: «تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم» (يو 8:32). ومع ذلك يذكّرنا التاريخ بأنّ ما اعتبرناه دفاعًا عن الحق اقترن أحيانًا بالقوّة، حتى بدا وكأنّ السيف وُضع حارسًا على باب الإنجيل.
أيُّ حقيقةٍ تلك التي تحتاج إلى عُنف كي تُقبَل؟ ما يُنتزع بالسوط لا يدخل القلب. وقد نبّهنا المسيح في الانجيل إلى أنّ الضمير لا يُكرَه على الإيمان وأنّ الحقيقة لا تُحمى بالقوّة. الإيمان يُقترَح ولا يُفرَض؛ والحقيقة تُخدَم بالشهادة، بالصداقة، وبالصبر على أسئلة الآخرين.
نعيش اليوم في عالمٍ تعدّدي مُتعَب من الادّعاءات المطلقة التي تُطلَق من وراء الجدران. أمام هذا الواقع تُدعى المسيحيّة إلى أن تُظهر وجهها الإنساني: احترام المختلف، الإصغاء الأمين، القدرة على مشاركة الخبز والجرح مع كل إنسان مهما كان معتقده أو عدمه. إنّ قوّة الإنجيل لا تكمن في إسكات الخصوم، بل في مرافقة البشر حيث هم.
في قلب الإيمان المسيحي يقف إعلان جريء: الحقيقة ليست فكرة جامدة بل شخصٌ حيّ — يسوع المسيح — الذي كشف وجه الآب وسلّم نفسه حبًّا على الصليب. عند تقاطع الخشبتين يلتقي العمودي (الله) بالأفقي (الإنسان)، فتتجلّى وحدة الحقيقة والمحبّة. لذلك لا يمكن اختزال الإنجيل في صيغ عقائديّة فقط، مهما كانت ثمينة؛ الصيغ تُشير، أمّا الشخص فهو الهدف.
عندما تُنتزع الحقيقة من المحبّة تتحوّل إلى أداة إدانة؛ وعندما تُفصل المحبّة عن الحقيقة تذوب في عاطفيّة بلا جذور. بين هذين الإفراطين يدعونا الصليب إلى مسار ثالث: صدقٌ متواضع ومودّةٌ جريئة وجرحٌ مفتوح لأجل مصالحة العالم. وقد نبّه الفيلسوف الفرنسي باسكال إلى أنّ الإنسان قد يصنع من الحقيقة صنمًا إن فصلها عن المحبّة؛ صنمٌ لا يُعبَد.
تعترف الكنيسة، عبر تقاليدها المختلفة، بأنّ فهمها للإنجيل ينمو في التاريخ. ما كان يُنظر إليه يومًا على أنّه انحراف اكتُشِف لاحقًا كغنى؛ أشخاص أُدينوا صاروا يُكرَّمون؛ صيغ إيمانٍ متباينة بين الكنائس باتت أماكن لقاء لا ساحات دم. الروح يعمل أوسع من حدودنا، وما نملكه من نور هو جزء لا الكلّ. هذا الوعي يحرسنا من التصلّب ويفتحنا للتعلّم المتبادل.
لذلك لا يليق بنا أن نحيا كحرّاس قلعة نخشى المختلفين. نحن تلاميذ في طريق مفتوح، نسير مع الآخرين ونسمح لأسئلتهم أن تنقّي إيماننا. الاختلاف ليس تهديدًا بل فرصة كي يرتدّ صدى الإنجيل بلهجات جديدة. وكما شبّه بولس الكنيسة بجسدٍ واحد ذي أعضاء كثيرة (را. 1كور 12)، كذلك عائلة البشر: تنوّعها علامة حياة لا خطر.
ميزاننا العملي، متى زعمنا الدفاع عن الحقيقة، بسيط وإنْ كان متطلّبًا: هل سيشعر من يختلف معي أنّه ما زال محبوبًا ومحترَمًا؟ هل أترك له مساحة ضمير حرّ؟ إن لم يكن كذلك، فربّما لا أدافع عن المسيح بل عن صورتي أنا عنه. الحقيقة التي تُهين الإنسان تخون مصدرها.
يمكن لكلّ واحدٍ منّا أن يبدأ بخطوات صغيرة: أن يُصغي قبل أن يردّ؛ أن يسأل الآخر ما الذي يجعله يرى الأمور كما يراها؛ أن يعترف بنقاط ضعف موقفه؛ أن يضيف كلمة محبّة إلى كل نقاش حاد؛ أن يتذكّر أنّ كرامة الشخص أغلى من انتصار الحجّة. وفي كلّ ذلك نسمع صوته الوديع: «تعلّموا منّي، لأنّي وديع ومتواضع القلب» (مت 11:29). هناك يبدأ الشفاء.
يا ربّ يسوع، حقّ الله المتجسّد ومحبّته، علّمنا أن نحمل حقيقتك بأيدٍ وديعة وقلوبٍ متواضعة؛ أن نُظهرها في الحنان أكثر ممّا في الجدل؛ أن نكون حضورًا شافيًا في عالمٍ جريح. اجعل كنيستك بيتًا مفتوحًا يضيئه الحقّ، ويدفئه الحبّ، ويستريح فيه كلّ إنسان.

اترك تعليقاً