الرّهبنة… فيض حياة.!..

بقلم الأرشمندريت الياس مرقص-

الرهبنة كالحقيقة، قديمة وجديدة في آن واحد. قديمة، وقد ملأت تاريخ المسيحية منذ جماعة المسيحييّن الأوّلين الموصوفة في أعمال الرّسل إلى يومنا هذا، كما ملأت الاقطار المسيحيّة في الشرق والغرب، ولا تزال. ولكنّها جديدة لمن لا يعرفها ولم يختبرها، كما هي الحال في كرسيّنا الأنطاكي المقدّس منذ عشرات السنين. ولذلك نلاحظ في محيطنا الارثوذكسي شيئًا من سوء الفهم للرّهبنة وأهميّتها، بل والتّساؤل عن منفعتها، وقد سمعنا الكثيرين يقولون:” العزلة والصلاة والتأمل. شيء جميل.!.. ولكنّنا نريد عملاً وانتاجًا، نريد شيئًا محسوسًا.!..”. قد يكون هؤلاء الأصدقاء الكثيرون، من حيث هم، على حق في رأيهم. فنحن الّذين دخلنا الدّير لم نكن، قبل دخوله، نعي تمام الوعي ما هي الرّهبنة. سأبوح بسرّ إذا قلت لكم إنّي شخصًيّا لم أدخل الدّير من نفسي، بل كانت هناك قوّة خفيّة تدفعني وتقودني وترتّب لي كلّ شيء، ,هي بلا شكّ القوّة المنبعثة من ضمير النّهضة الارثوذكسيّة، قوّة منطق النّهضة الداخلي. هي بالنّتيجة إرادة الله. ولذلك نستطيع القول بأنّنا ، أنا ورفاقي الأربعة في دير مار جرجس الحرف، والرّاهبات التّسع في دير مار يعقوب دده، مهما كان عددنا ضئيلاً، ومحاولتنا متواضعة، لانختبر الرّهبنة باسمنا ولحسابنا، ولا باسم حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ولحسابها وحسب، بل باسمكم جميعًا، باسم الكرسيّ الانطاكيّ المقدّس ونهضة الله فيه..

الرّهبنة هي الحلّ ولكنّها ليست الحلّ.!..

لا أزال أذكر زيارتنا لأحد الوجهاء الارثوذكسيين الّذين يتوقون إلى النّهضة ويعملون لها قولًا وفعلًا، فلمّا سمع بمحاولتنا جعل يقول ويكرّر، وكأنّه وجد ضالّته المنشودة:” كنت أتساءل كثيرًا ما الّذي سينقذ هذه الطّائفة الصّائرة إلى الزوال، ولم أجد، ولكن هوذا الجواب: أنتم الحل”. وكان يقصد طبعًا لا نحن شخصيًّا بل الرّهبنة. صحيح أنّ الرّهبنة هي الحلّ لانّ موطن الضعف في هذه الكنيسة إنّما هو الافتقار إلى أشخاص كرّسوا أنفسهم لله تكريسًا كاملاً نهائيًّا بتجرّد كليّ، إلى أشخاص أضحى معنى وجودهم التّفتيش عن الله والخدمة لوجهه تعالى، ومهما جدّوا وعملوا ونجحوا، يحسبون أنفسهم عبيدًا بطّالين بكلّ إخلاص نيّة. صحيح أنّ الرّهبنة هي الحلّ لأنّ وجود بعض الاشخاص القلائل الّذين يخدمون الكنيسة بهذه الرّوح لا يغني عن جوع ولأننا بحاجة الى كثرة، إلى أفواج متتالية منتظمة، إلى مصنع للرّجال المكرّسين لله والعاملين لمجده تعالى، ولأنّ الرّهبنة قد تكون، دون غيرها، ذلك المصنع. الرّهبنة هي الحل، ولكن بشرط: بشرط أن لا تكون أداة وطريقًا للحلّ، أن لا تكون فقط وسيلة للحلّ.

الرهبنة غاية بحدّ ذاتها وهي وجه المسيحيّة الأخير.

تحبّ الرّبّ من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ ذهنك ومن كلّ قوّتك ذلك لأنّ الرّهبنة قد بدت لنا غاية بحد ذاتها. ليس الرّاهب كطالب يدخل المعهد لكي ينال الشهادة ويخرج ويطبّب. الرّهبنة موجهة لله اولاً وآخرًا، وإذا شاء الله أن تقوم الرّهبنة بخدمة محسوسة للكنيسة، فخدمتها تكون لا هدفًا بل نتيجة، تكون فيضًا من حياة.. ولهذا عينه تكون أكثر أصالة وديمومة. لقد وضعنا في مشروع قانوننا أحكامًا تتيح للرّهبنة خدمة الكنيسة في مختلف الميادين الرّوحية والتربويّة والخيريّة والنّشر، بل تسمح لها بانتداب بعض أعضائها للعمل خارج الدير واستلام أو إدارة مختلف المؤسّسات الكنسيّة والمعاهد الاكليريكيّة وغير الاكليريكيّة إذا لزم الأمر. ولكن متى توفّرت، لا شروط العدد وحسب، بل الشروط الرّوحيّة الداخليّة الّتي تجعل من الرّاهب راهبًا. ومن الرهبنة رهبنة.. ذلك لأنّ الرّهبنة شيء قائم بذاته، شيء أصيل في المسيحية. لقد بدت لنا الرّهبنة بوجهها الحياتيّ تتّصل بطبيعة الحياة المسيحيّة العميقة الواحدة المشتركة بين جميع المسيحيّين، بل قد نرى فيها الوجه الحقيقيّ للمسيحيّة والحياة الروحيّة المثلى والأخيرة لكلّ مسيحيّ ولكلّ مجتمع مسيحيّ على السّواء، رغم استغراب النّاس لها. 

الرّهبنة والتّكريس لله

قلنا إنّ طابع الرّهبنة الأساسيّ هو التّكريس للرّبّ. ولكنّ كلّ مسيحيّ مكرّس للرّبّ. إنّ الارثوذكسيّة- عدا عدم تمييزها بين طبقة تعلَم وطبقة تعلّم في الكنيسة- لم تصبغ الرّهبنة بصبغة الإكليروس. فالرّاهب في الأرثوذكسيّة أقرب للعلمانيّين منه لرجال الإكليروس. بل تعتبر الارثوذكسية كلّ مسيحيّ راهبًا إذا كُرّس لله بالمعموديّة وطُبع بخاتمه. أمّا الرّاهب فيذهب بهذا التّكريس إلى أبعد حدوده. إنّي عندما أُعجب بشخص وأحبّه حبًّا كبيرًا، أفكّر به على الدّوام، بجماله أو محاسنه، وأؤمن به وأعمل ما يرضيه وأتفرّغ له ساعيًا للالتصاق به والحياة معه، وأجد السّعادة، أو لا أجدها، بهذا الالتصاق. فلماذا أستبعد أن أفكّر بالله وأتأمّل فيه على الدّوام، وأؤمن به وأعمل ما يرضيه، متفرّغًا له، وساعيًا للالتصاق به، ولله تمجّد وتعالى مصدر كلّ خير وجمال وسعادة. وليس الخير والجمال في البشر إلّا انعكاسًا لخيره وجماله الذي لا يوصف.؟!.. لماذا أستغرب ذلك وقد قيل تحبّ الرّبّ من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ ذهنك ومن كلّ قوّتك.؟!.. فالرّاهب إذًا يكرّس نفسه لله لأنّ هذا إنّما هو حقّ، وهو يكرّس نفسه بالدّرجة الأولى لا ليخدم الكنيسة والمجتمع بل ليكون في الحقّ.

ودعوة الحقّ هذه دعوة كلّ مسيحي، إنّما يخوضها الرّاهب بشكلها الأخير المطلق…

 

 

اترك تعليقاً