الأب جوزف خليل-
منذ أن وُجد الإنسان على هذه الأرض، وهو يلهث وراء السعادة. يظنّها في المال، أو الممتلكات، أو الإنجازات، أو العلاقات العابرة، أو في إعجاب الناس لكنه يتعب دون أن يدرك أن السعادة الحقيقية لا تؤخذ من الخارج، بل تُستخرج من الداخل. ليست ما نملكه، بل ما نحمله في القلب: حضور إلهي هادئ، يسكن النفس إذا أحبت وشكرت.
فالمحبّة، في جوهرها الأعمق، ليست ميلًا عاطفيًا عابرًا، بل سرّ إلهي يجعل من الكائن البشري هيكلًا حيًّا للروح القدس. من يحبّ، يحيا على مثال المسيح، الذي “لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مرقس 10: 45). فالمحبّة ليست طريقًا إلى السعادة، بل هي السعادة ذاتها، لأنها انفتاح على الله، الذي هو “محبّة” (1 يو: 4-8). إنها لا تعطي شيئًا خارجيًا، بل تخلق قلبًا جديدًا.
كثيرون انخدعوا وهم يركضون خلف السعادة في المظاهر، متناسين أن ما يشبع النفس ليس كثرة المال، الملاذات والدنيوّيات… بل امتِلاؤها يجب ان يكون من حضور الآخر، من الحبّ المجّاني. يقول القديس يوحنا الصليب: “المحبّة تُشبه النار، كلّما التهمت الوقود، اشتدّت توقًا للمزيد”. إنها نار لا تحرق، بل تنقّي، تشعل في القلب توقًا لا ينطفئ إلى الله، وتُبدّد ظلمة الأنانية.
السعادة ليست وهمًا، ولا سرابًا، ولا امتيازًا للنخبة. والسعادة الحقّة ليست امتيازًا للناجحين، بل عطية إلهية تُمنح لقلب يُحب. فمن يحبّ، يملك سرّ السعادة، حتى إن بدا في نظر العالم فقيرًا أو مجهولًا. لأن المحبّة تُغني، لا بما تمنحه من أشياء، بل بما تزرعه من فرح داخلي وسلام صامت. السعادة التي تُولد من الحبّ لا تحتاج إلى تصفيق، ولا إلى جمهور، ولا إلى إنجازات تُعلَن، بل إلى قلب يعطي، ويغفر، ويخدم، ويشكر. فالمحبّة تُحوّل حياة الإنسان إلى عطيّة دائمة، وتُخرجه من سجن الذات إلى فسحة الآخر، وهناك، يولد الفرح الحقيقي، الذي لا تمنحه الممتلكات ولا الظروف، بل تسكبه النعمة في القلب.
من يحبّ، يملك كلّ شيء. لأن المحبّة الحقيقية تجعل القلب ممتلئًا، حتى لو كان الجيب فارغًا. فحتى في غياب بيت واسع، أو سيارة فاخرة، أو رصيد بنك مالي… يبقى الحبّ وحده كافيًا ليملأ القلب فرحًا. فالسعادة التي تأتي من الحبّ لا تعتمد على الظروف، بل على الامتلاء الداخلي، أي فرح العطاء، وحرية البذل، وصدق الوفاء.
إن تعليم الكنيسة (§1766-1771) يبيّن أن المحبة ليست اندفاعًا عاطفيًا طارئًا، بل هي فعل حرّ للإرادة، واختيار ثابت لعطاء مجانيّ غير مشروط. من يحبّ بهذا العمق، يتذوّق السعادة الحقّة، لأنها تنبع من حرية العطاء لا من مطالب التملّك. في عالم يُقاس فيه النجاح بالمال، والقيمة بالمظاهر، تبرز كلمة الإنجيل كصرخة ضد هذا التيار: “إن كنتُ لا أملك المحبّة، فلستُ شيئًا” (1 قور 13، 2). أي أن من يمتلك كل شيء لكنه لا يحبّ، يبقى تعيسًا، لأن قلبه فارغ، ونفسه جائعة. وحدها المحبّة تُشبع هذا الفراغ، وتُحرّرنا من الجوع الدائم إلى المزيد، ومن القلق الذي لا ينتهي.
وهنا تتّضح الحقيقة الجوهرية: من لا يشكر، من يقضي أيامه في التذمّر والمطالبة والمقارنة، لن يعرف السعادة ولن يرى هذا الخير، لأنه منشغل بما ينقصه، لا بما يُعطى له يوميًا. فالتذمّر يُعمي القلب، ويُشوش على حضور الله، في حين أن الامتنان والشكر يُنقّي النظر ويُعد القلب للفرح. فالسعادة ليست مجّرد عطية إلهية، بل استعداد داخليّ لقبولها. والنعمة لا تُعطى إلا لقلب يعرف كيف يشكر، كيف يفرح بالقليل، ويكتشف المعجزات في البساطة: في التنفّس، في الصمت، في الصلاة، في الآخر.
ومن يقارن نفسه بالآخرين، يُشبه من يُطلّ من نافذة الآخرين وينسى أن يفتح نوافذ بيته. لا أحد يملك كلّ شيء، لكن الجميع يملكون شيئًا. من يرى ما لديه بعين الامتنان، يرى كنزًا، أمّا من ينظر بعين النقص، فلن يُشبعه شيء. وكما يقول القديس بولس: “اشكروا في كل شيء، فهذه هي إرادة الله في المسيح يسوع من جهتكم” (1 تس 5، 18). السعادة لا تُولد في القصور، بل في القلوب التي تعرف كيف تقول: “شكرًا يا رب، لأنك حاضر، لأنك تُحبّني، لأنك تهبني ما لا أستحقّه”. فالشكر لا يُجمّل الحياة فحسب، بل يُبدّلها، لأنه يُعيدنا إلى المصدر، ويُذكّرنا أن: “كلّ عطية صالحة وكلّ موهبة كاملة هي نازلة من فوق، من عند أبي الأنوار” (يع 1، 17). وحيث لا شكر، لا سلام. فالقلب الذي لا يعرف الشكر يبقى قلقًا، متطلّبًا، متوتّرًا، مشدودًا إلى ما لا يملكه بعد. أما القلب الشاكر، فيتّسع لله، ويتّسع للناس، ويستريح، لأنه قد وجد في حضور الله اكتفاءه، وفي محبّته سعادته.
وإن أردنا أن نرى وجه السعادة الحقّة، لننظر إلى مريم، الممتلئة نعمة، والساكنة في الله. مريم لم تطلب مجدًا ولا ضمانًا، بل قالت: “ها أنا أمة الربّ” (لوقا 1، 38). في تواضعها وسكونها واختفائها، صار فيها الله كلّ شيء. لم تبحث عن السعادة، بل سلّمت ذاتها للنعمة، فوجدتها. لم تمسك، بل أعطت. لم تتكلّم، بل صمتت. ولم تكن تمتلك شيئًا، ولكنها كانت تملك الكلّ. هذا هو السرّ: أن النعمة لا تُصنع، بل تُقبَل، ولا تُسيطر، بل تُحتَضَن في صمت الطاعة والإيمان. فالحياة المسيحية ليست بحثًا عن الاكتفاء، بل انفتاحًا على الامتلاء؛ والامتلاء لا يأتي من العالم، بل من الله.
في زمن تُزيّف فيه السعادة بالإعلانات على الشاشات وتُسوّق كسلعة، وتُباع الأوهام في أسواق الترفيه، نحن مدعوّون لا لنرفض العالم، بل لنرجع إلى الله، لنفهم أن الفرح لا يُشترى، بل يُعاش. أن السعادة لا تأتي من الخارج بل من الداخل، من قلب عرف كيف يحبّ ويشكر ويغفر. السعادة عطية، لكنها تحتاج قلبًا صامتًا، يُصغي ويندهش. فالله لا يفرض سعادته، لا يقتحم، لا يُجبر، بل يقرع باب القلب برفق: “ها أنا واقف على الباب أقرع” (رؤ 3: 20). إن لم نفتحه له، لن تدخل السعادة. والسعادة التي يعطيها الله لا تُحدث ضجيجًا… وإن فتحنا له، سيسكن فيه فرح لا يُنزع.
في النهاية، من يعيش في تعاسة اليوم، ليس لأنه لا يملك، بل لأنه لا يرى ما يملك. من يقيس حياته بما ينقصه، يظلّ غريبًا عن النعمة وينسى أن النعمة في الحاضر، وأن الحبّ كافٍ. فالمحبّة لا تسقط أبدًا (1 قورنتس 13، 8)، لأنها تنبع من الله وتعود إليه، وتحمل الإنسان إلى الحياة الأبدية. لذلك، لا تبحث عن السعادة بعيدًا، بل أنظر إلى قلبك، واسأل: هل أحببت؟ هل غفرت؟ هل أعطيت؟ هل شكرت؟ فإن كان الجواب نعم، فاعلم أنك قد وجدت الله، ومن وجد الله، وجد السعادة. وإن لم تفعل، فاعلم أن الطريق يبدأ من هنا: من الحبّ.