الكنيسة السينودسية : علامة ضرورية لعالم اليوم

You are currently viewing الكنيسة السينودسية : علامة ضرورية لعالم اليوم

الإكسرخوس الأباتي فادي بو شبل-

في السياق الحالي، الذي يتميز بانقسامات عميقة وتحديات اجتماعية، ترفع الكنيسة الكاثوليكية، من خلال قداسة البابا فرنسيس، نموذج السينودسية الذي يقوم على التواصل والمشاركة والرسالة، في عالم يتزايد فيه التعدد والتوجه العلماني.
السينودسية، المفهومة على أنها “السير معًا”، لا تُقدَّم بوصفها هيكلًا إداريًا أو منهجًا رعويًا فحسب، بل كإشارة نبوية ضرورية تعكس إرادة الله لشعبه في هذه اللحظة التاريخية.

تستعرض هذه المقالة أهمية الكنيسة السينودسية في عالم اليوم، انطلاقًا من الأسس الكتابية واللاهوتية التي تؤكد على ضرورة السير معًا نحو المهمة المشتركة من أجل خير كل إنسان.

1.   الأسس الكتابية السينودسية

للسينودسية جذور في الكتاب المقدس، حيث الدعوة الدائمة إلى الوحدة والتلاقي بين المؤمنين. فمنذ نشأة المسيحية، دُعيت الكنيسة لتكون جماعة يشارك جميع أعضائها بفعالية في حياة ومهمة جسد المسيح السري.
وفي سفر أعمال الرسل، يُروى كيف عاش المجتمع المسيحي الأول خبرة التواصل العميق:
“وكان جميع المؤمنين معًا، وكان عندهم كل شيء مشترك” (أعمال 2:44).
هذه الصورة ليست مجرد وصف للكنيسة الأولى، بل هي نموذج يُفترض أن يُعاد إحياؤه باستمرار في حياة الكنيسة اليوم.

ويذكر المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستور لومن جينتيوم، أن الكنيسة هي “شعب الله”، أي شعب يسير نحو ملء ملكوت الله. وهكذا، تَظهر السينودالية كنهج للوجود الكنسي، حيث يُدعى كل عضو للمشاركة الفاعلة انطلاقًا من موقعه.
هذه المشاركة ليست مسألة إدارية فقط، بل هي استجابة لأمر إنجيلي:
“لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع” (غلاطية 3:28).
السينودالية، إذًا، علامة ظاهرة على الوحدة والمشاركة اللتين يجب أن تميّزا الكنيسة.

وعلاوة على ذلك، تعكس السينودالية نموذج يسوع، الذي دعا تلاميذه إلى السير معًا ومشاركتهم في رسالة ملكوت الله. ففي إنجيل متى (18:20)، يقول:
“حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم.”
هذا الوعد بحضور المسيح في الجماعة يُعدّ أساسيًا لفهم السينودالية: فالكنيسة ليست مجرّد مؤسسة بشرية، بل هي الموضع الذي يُعلَن فيه حضور المسيح الحي في العالم.

2. الأسس اللاهوتية للسينودسية

للنهج السينودسية أيضًا أساس لاهوتي عميق. فالكنيسة، في أصلها ورسالتها، هي واقع ثالوثي. فكما أن الآب والابن والروح القدس متّحدون في محبة كاملة، كذلك يجب أن تعكس الكنيسة هذا التآزر في حياتها الداخلية وفي علاقتها بالعالم.
السينودالية، بصفتها “مسيرة مشتركة”، هي أسلوب حياة كنسية يعترف فيه الجميع بعضويتهم في جسد واحد، بمهمة واحدة وتحت رأس واحد هو الرب نفسه.

وقد أكد البابا فرنسيس، عند إطلاقه السينودس حول السينودسية، أن هذه المسيرة تتطلّب “الاستماع المتبادل” بين أعضاء الكنيسة. وهذا الإصغاء لا يقتصر على البُعد الإنساني، بل هو انفتاح على الروح القدس، الذي يُرشد ويحمل الكنيسة في مسيرتها عبر التاريخ.
فالروح القدس هو مبدأ الوحدة في التنوّع، ومن خلاله تصبح السينودالية ممكنة:
“الروح القدس، الذي يجمعنا ويدعونا إلى الرسالة، هو أيضًا الذي يقودنا على هذا الطريق المشترك نحو ملء ملكوت الله.”

في هذا السياق، تكتسب السينودالية بُعدًا كنسيًّا وهوياتيًّا، إذ تعبّر عن تعميق الجماعة الكنسية وانفتاحها على الروح الذي يدفعها نحو الرسالة.
فالكنيسة السينودالية ليست فضاء للسلطة أو الهيمنة الهرمية، بل هي جماعة يُدعى فيها الجميع، على اختلافهم، إلى العطاء من مواهبهم، والمشاركة الفاعلة في عمليّة التبشير والتمييز الجماعي.

3. السينودسية كاستجابة لتحديات عالم اليوم

في عالم اليوم، الذي يتسم بالعلمانية المتزايدة، والانقسامات الاجتماعية، والتجاذبات السياسية، تُقدِّم الكنيسة السينودالية ذاتها كعلامة رجاء ووحدة.
ففي زمن تطغى فيه الفردية وغياب الحوار، تقترح السينودالية نموذجًا كنسيًا وشهادًة حيّة على الأخوّة والتضامن.

بهذا المعنى، تصبح الكنيسة السينودالية علامة ضرورية، لأنها تُظهر للعالم أنه بالإمكان السير معًا رغم الاختلافات، وأن محبّة الله قادرة على شفاء الانقسامات.

وقد شدد البابا فرنسيس على أن السينودالية ليست فقط من أجل الكنيسة، بل من أجل العالم أيضًا. ففي زمن يعاني من أزمات حادّة في الحوار والتعاون، يجب أن تكون الكنيسة منارة وحدة، تُظهر أن القوة الحقيقية تكمن في الجماعة، وفي خدمة بعضنا البعض.
السينودالية تدعو إلى تفكير عميق في كيفية العيش كشعب الله وسط التوترات والانقسامات في عالمنا الحديث.

خاتمة

تُعَدّ الكنيسة السينودالية علامة نبويّة وضرورية لعالم اليوم، لأنها تُجيب على حاجات إنسانية عميقة للتواصل، والوحدة، والمشاركة.
مرتكزة على المبادئ الكتابية واللاهوتية، ومبنية على المشاركة في المسيح والانفتاح على الروح القدس، ليست السينودالية مجرّد مسار داخلي للكنيسة، بل هي نور يُضاء للعالم بأسره.

في زمن تبدو فيه الانقسامات عصيّة على الحل، تُقدّم الكنيسة السينودالية شهادة حيّة بأنه بالإمكان، في المسيح، السير معًا نحو مستقبل من الرجاء، والعدالة، والسلام.

اترك تعليقاً