المسيحي في مواجهة البصّارة، قارئ الحظ والكف، التنجيم والتارو

You are currently viewing المسيحي في مواجهة البصّارة، قارئ الحظ والكف، التنجيم والتارو
الأب جوزف خليل-
المسيحي مدعو لأن يكون حُرًّا في المسيح، لا عبدًا لظلمات الخرافات والباطل. ليس له أن يربط مصيره بأوهام البصّارة أو قارئ الحظ والكفّ، أو ورق التارو (التاروت) والتنجيم، بل ليعطى قلبه كله لله الحيّ، تسليمًا كاملاً لا يتزعزع، وثقة راسخة بحضوره المحبّ الحاكم على كل زمنٍ ومكان. الإيمان الحقيقي ليس اعتقادًا جامدًا ولا شعورًا عابرًا، بل هو ولادة جديدة تكسر قيود الخوف والشكّ، وتفتح النفس لنور الرجاء والسلام.
لكن حين تهتز هذه الثقة، يُفتح باب الموت الروحي على مصراعيه، فتتسلل ممارسات قاتلة تُغشّي القلب وتسلبه نعمة الله، وتبدّل عناية الأب الرحيم بقوى خفية تذل الإنسان وتسلبه كرامته، فتسقطه في عبودية أعمق من أي قيود مادية.
إنّها تمرد خفيّ وعنيف على سلطان الله، إنكار مُرّ للحرية الحقيقية التي وهبها الله، وإقرار بعبودية أوهام باطلة لا خلاص فيها ولا تحرير.
وقد أكّد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية هذا بصراحة جذرية قائلاً:
“جميع أشكال العرافة يجب أن تُرفَض، حتى اللجوء إليها من باب الفضول. فهي تعني إرادة بسط سلطة على الزمن والتاريخ والناس، بدلاً من تسليم الأمر لمحبة الله ومقاصده” (§2116).
فكيف يرضى المؤمن أن يُدعى إلى الإيمان، وقلبه سرًا يخضع لأوراق أو خطوط أو أبراج، أو… بائعًا نفسه لأدوات مرفوضة كنسيًا، تهدم رجاءه وتسرق حريته؟
إن زيارة البصّارة أو قارئة الحظ، ولو تحت ستار الفضول أو التسلية أو المزاح، ليست فعلًا بريئًا، بل إعلانًا ضمنيًا بأنّ نعمة الله لم تعد كافية. فهي تزرع في القلب وهمًا بوجود “معرفة” بديلة و”سلطان” خارج دائرة النعمة الإلهية.
فالبصّارة لا تُنير الطريق، ولا تكشف سرّ المستقبل، بل تُلقي النفس في دوّامة من الخوف والتكهّن لا تنتهي. وكلّما تكرّرت هذه الزيارات، ازداد تعلّق النفس بأدوات لا تنتمي إلى الله، فتغرق في قلقٍ مزمن، وعطشٍ روحي لا يُروى، وانفصالٍ تدريجيّ عن حياة الصلاة والسلام، ويتحوّل الاتكال إلى خيوط واهية تشدّها قارئة البخت، فتقود النفس بعيدًا عن الاتكال البنويّ الكامل على الآب السماوي.
إحدى الآفات العميقة لهذا الانجراف، أنّه يُشوّه نظرة الإنسان إلى ذاته ومسؤوليته. فيميل إلى نسب آلامه وبلاياه إلى “سوء الحظّ” أو “النحس”، عوض أن يرى فيها ثمارًا مرّة لاختياراته الحرّة ومسؤوليته الأخلاقية. وهكذا يُغلق قلبه عن التوبة، ويُفرّغ الألم من معناه الخلاصي، وتخفت في أعماقه الدعوة إلى الرجوع نحو الله، ذاك الذي وحده يُنير الغموض ويهب المعنى حتى في أحلك الظلال.
فالتنجيم أيضاً، حتى في أبسط أشكاله، يقوم على فرضيّة باطلة، تُوحي بأنّ مصير الإنسان مرهون بحركة الكواكب والنجوم، وكأنّ الإنسان مجرّد آلة تخضع لقوانين سماوية صارمة، لا مكان فيها لنعمة الله ولا لحرية الإرادة. وهذه الرؤية تُهدم في العمق ما أعلنه الربّ يسوع عن العلاقة الحيّة التي يريدها مع كلّ إنسان. فالكتاب المقدّس لا يترك مجالًا للّبحث في هذا الشأن: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” (أعمال 1: 7). فالله لا يعاملنا كمعادلات فلكيّة جامدة، بل كأبناء محبوبين، مدعوّين للدخول في عهدٍ حرّ، لا في حسابات قَدَريّة لا تعرف الحبّ.
أما ” التارو” أو ورق التاروت، الذي يُسوَّق اليوم تحت أقنعة خادعة مثل “التحليل النفسي” أو “الفضول الثقافي”، خصوصًا عبر وسائل التواصل، ليس مجرد لعبة أو فضول عابر، بل هو مدخل مظلم إلى عوالم لا تنتمي إلى الله. من يفتح قلبه لهذه الرموز الغامضة يُسلّم نفسه طوعًا لقوى مضلّلة تسرق منه نعمة البنوة، وتزرع في نفسه الهلع بدل الرجاء، والتشويش بدل السلام.
فالتارو، مهما جُمّل، يبقى تمرّد خفي على سلطان الله، ورفض لنور كلمته الحيّة. إنه دعوة خاطئة إلى استحضار قوى لا تنبع من الروح القدس، تُغرق النفس في ظلمة تُخمد نور التمييز وتُبدّل صوت الله بهمسات أوراق صامتة لا حياة فيها. هذا خداع روحي عميق يُضعف الإيمان ويربك الضمير، ويُقيّد الإنسان بسلاسل الخوف والتعلّق، ويجرّه بعيدًا عن الله تدريجيًا.
من يفتح قلبه للتارو يغلقه عن نعمة الله، وينسحب من دعوة التلمذة، ليصير عبدًا لوهم يُغذّي القلق ويُميت الحياة الجديدة في الروح. فالحق لا يُستقى من رموز، بل من الكلمة التي صار جسدًا، والحرية لا تهبها بطاقات غامضة، بل يسوع وحده، الذي قال: “تعرفون الحق، والحق يحرّركم” (يوحنا 8: 32).
كذلك، إن قراءة الكفّ ليست تأمّلًا روحيًا في سرّ الجسد، بل اختزالٌ مهين للحياة والكرامة الإنسانيّة، وتشويهٌ صارخ لهويّة الإنسان المخلوق حرًّا في المسيح. الإنسان ليس أسير نقشٍ باهتٍ على جلد، بل هو مختوم بختم الروح القدس، حامل صورة الله. فبدلاً من أن نبحث عن مستقبلنا في خطوطٍ عبثيّةٍ على راحة اليد، دعونا نقرأ هناك حبّ الله الذي نقشه فينا بإرادته الخلاصيّة، كما أعلن الربّ في إشعيا: “نقشتك على كفّي” (إشعيا 49: 16)؛ ليست خطوط القدر، بل خطوط النعمة والحياة.
يظنّ الجهلاء أن راحة اليد تحوي أسرار المصير، فتُعطى لهذه الخطوط والتجاويف قيمة خارقة، تُفسر على أنها مفتاح شخصية الإنسان ومستقبله وثرواته وأحداث حياته، كأن الإنسان مجرّد عبد لقدرٍ مكتوب لا يستطيع الإفلات منه. وهؤلاء الذين يمارسون هذه الخرافة يدّعون زورًا أنهم يقرأون مصير الإنسان وكأنه نقشٌ مُرسَمٌ على الجلد، مستعبدين بذلك الإنسان لوهمٍ يعطل إرادته، ويُفقر روحه من الحرية الحقيقية التي أعطاها الله.
هذه الممارسة ليست مجرد خرافة عابرة، بل
انتهاكٌ للكرامة،
تمردٌ على نعمة الحريّة البنويّة،
خيانةٌ لعهد الله مع الإنسان، الذي يدعوه أن يكون حرًّا ويتبع صوت الروح لا خطوطَ باهتةً على جلدٍ زائل
وخطيئة مميتة يجب الاعتراف بها أمام الكاهن في سرّ المصالحة.
استعمال كل هذه الوسائل التضليلية للإيمان، تدعو إلى الاستسلام لقدرٍ مزيف، وتنقل الإنسان من مملكة النور إلى عبودية ظلامية، فتقتل في القلب بذرة الرجاء، وتزرع اليأس بدل التوكّل على الله الحيّ.
كلّ إنسان مؤمن مسيحيّ
يهرع إلى قارئة الحظّ، أو يتسلّل خلف التنجيم، أو يفتتح باب التاروت، أو…
يعلن، ولو بصمت، فقدان ثقته بأن الله وحده هو ربّه، خالقه، وقائده الحقيقي لحياته.
هذا هو جوهر الخرافة، التي لا تجرح العقل فحسب، بل تزعزع الثقة البنويّة بالله، تشوّش إيمانه بخالق الكون وربّ الأرباب، فتفصل الإنسان عن النور وتغرقه في متاهات الشكّ.
هناك يحلّ الخوف محلّ الإتكال، والإرتياب محلّ الإيمان الصادق.
وقد نبه البابا فرنسيس الراحل في “فرح الإنجيل” إلى هذا البعد الروحي المقلق، قائلاً: “الخرافات تشوّه الديانة وتبتعد عن نور الإيمان الحقيقي، إذ تلجأ إلى أشكال من العبوديّة الروحيّة التي تخنق حرية الإنسان بدل أن تحرّره” (§89).
فليحذر كل مؤمن هذا العبث الذي يجرّه إلى عبودية باطلة، وينزع عنه نور الرجاء الحقيقي، ويغلق عليه باب النعمة والحياة الجديدة.
المسيحي لا يحتاج إلى معرفة المستقبل، بل إلى معرفة ذاك الذي يملك المستقبل.
من يؤمن، لا يبحث عن طمأنينته في التنبؤات، بل في العلاقة.
من يحبّ يسوع، لا يلجأ إلى الوسائط الغامضة، بل يصغي إلى كلمته، ويثق بحضوره، ويتذكّر دومًا أن الراعي لا يترك خرافه، وأنّه قال: “الربّ راعيّ، فلا يعوزني شيء” (مزمور 23: 1).
هنا نَختُم القسم الأول، لنفتح الباب نحو مواجهةٍ أشدّ عمقًا، حيث يتقنّع السحر برداء البركة، وتُستعمل الأسماء المقدّسة في شعوذاتٍ تُقنِع وتضلّ، لنكتشف في القسم التالي كيف يتسرّب الانحراف إلى حياة المؤمن من خلال: الحجاب الورقيّ المثلّث، والفك والربط، السحر والممارسات التي تدّعي الشفاء… وهي في الحقيقة تفتح أبواب العبوديّة للشرّ المستتر.

اترك تعليقاً