عُقدت في الجامعة الأميركية في بيروت، الندوة الثالثة من مسار الحوكمة والسياسات، تحت عنوان “استقلالية النظام القضائي اللبناني وإصلاحه”، ضمن فعاليات مشروع “لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية”، بحضور عدد من المختصين بالشأن القضائي والإعلاميين.
تضمّنت الندوة أربع جلسات بإدارة الإعلامي اللبناني سام منسّى، الذي افتتح بالتشديد على أهمية استكمال جلسات المشروع، ومن ضمنها جلسات ندوة “استقلالية النظام القضائي اللبناني وإصلاحه”.
تحدّث في الجلسة الأولى أركان السبلاني، رئيس المستشارين ومدير مشاريع مكافحة الفساد الإقليمية لدى مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الدول العربية، الذي استهل مداخلته بالتشديد على أهمية موضوع استقلالية القضاء وعلاقته العضوية بكل مواضيع الإصلاح والتنمية، مشيراً إلى أن مضمون حديثه سوف يعكس تجربته وخبرته على المستويين الإقليمي والدولي وليس بالضرورة الموقف الرسمي المكتب الوطني لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في بيروت. وتابع قائلا: “على الرغم من أهمية الحديث عن الاستقلالية، لا بدّ من إعادة تأطير الموضوع وتوسيعه، لأن الاستقلاليه ليست غاية بحد ذاتها وحسب، فالغاية الابعد هي تحقيق العدالة وتمكين الناس من التمتع بحقوقهم وحرياتهم. فالقضية قد تكون مستقلا ولكن غير أمين، أو مستقلا ولكن غير كفؤ، أو مستقلا ولكن غير فعال، وبالتالي لا بد من التنبه إلى عدم تحويل الحديث عن الاستقلالية إلى حديث عن امتيازات وحصانات قد تؤدي إلى خلق مؤسسات غير قابلة للمساءلة امام الناس. لذلك لا بد من التركيز على أهمية تعزيز النزاهة كجزء من اي عملية إصلاحية في القضاء، وهذه النزاهة تكون على المستويين المؤسسي والفردي، وتتحقق من خلال إيجاد مجموعة الضوابط التي يرد معظمها بشكل واضح في المعايير الدولية والممارسات الجيدة في القانون المقارن بما فيها المادة ١١ من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ودليل تنفيذها المفصل. بغية الوصول إلى تحديد تلك المعايير بدقة وتنزيلها بما يلائم السياق الوطني دون الانتقاص من التزامها بالمواثيق الدولية لا بد من أن يكون هناك مسار ممأسس واضح المعالم يتم انتهاجه. والتجارب المقارنة تثبت أن المسارات التي تنجح في تحقيق هذا الإصلاح هي المسارات التي تحتوي على تنوع، ما يعني أن موضوع اصلاح القضاء لا يجب أن يكون مقتصراً على القضاة ولا حتى على المحامين، بل يجب أن يشارك فيه المجتمع المدني والمشرّعون وخبراء المال والإدارة، حتى يتحوّل الأمر إلى قضية مجتمع. كما يجب أن يكون هناك نوع من التوثيق والمراكمة والشفافية، إذ لا يصح أن نعود كلّ سنة أو اثنتين إلى النقطة الصفر. إضافة إلى ذلك يجب أن يُبنى حوار مع المجتمع حتى يشعر المواطن العادي أنّه جزء من هذا المشروع ومعنيّ به، فالربط بين المجتمع وبين العملية الإصلاحية مهم ضمن هذا المسار”.
وسلّط السبلاني أيضا الضوء على مجموعة من الأولويات الموضوعاتية التي ينبغي التوصل إلى حلول بشأنها تراعي مسألة النزاهة مثل “موضوع تعيين القضاة وترقيتهم ونقلهم وصرفهم وكل ما يرتبط بمسارهم المهني، ومنها أن يكون هناك تقييم فعال وموضوعي للأداء، ومدونات اخلاقيات وسلوكيات ذات جودة معممة على المعنيين وعلى الجمهور ومفعلة على أرض الواقع. كما أشار إلى أهمية أن يشمل التفكير مسائل إصلاحية محددة تتعلق بهيكلية التفتيش القضائي ودوره، وبدور النيابة العامة وقضاة التحقيق وعلاقتهما التكاملية مع بعضهما البعض، والعلاقة مع الضابطة العدلية كذلك، موضحا أنه لا حاجة لانتظار القوانين لحل جميع الاشكاليات والتحديات إذ إن بعضها قابل للمعالجة بوسائل اخرى، بما فيه وسائل تكنولوجية بسيطة كأن يتم تسجيل كل المحادثات التي تتم بين النيابة العامة والضابطة العدلية”.
ومن ناحية أخرى رأى السبلاني أنّ “استقلالية القاضي أو القاضية الداخلية مهمة، ولكن لا يمكن أن نتوقّع من القاضي أن يكون الرجل الخارق أو المرأة الخارقة، إذ يجب أن يحصل على الضمانات، التي تترسخ بالقوانين ولكنها تحتاج ايضا إلى ثقافة حولها، والمسؤولية في تولي هذه القوانين تقع على المجلس النيابي ومؤسسات الدولة التي ترسخ هذه الثقافة، وكذلك المجتمع المدني الذي له دور أيضًا. من أجل ذلك نحن بحاجة إلى تفكير إستراتيجي عن كيفية الاستفادة من تجربة ثلاثين سنة مضت ولم تثمر حتى اليوم قانونًا واحدًا لاستقلال القضاء، في حين ربما تكون أثمرت مسارات أخرى قوانين، ومن هنا أهمية أن يكون هناك توافق بين القوى الراغبة في أن يتحقق هذا الإصلاح، حول الحدود الدنيا والمجالات القابلة للتفاوض والمعايير التي يجب أن تُعطى الأولوية، لكسر هذه الحلقة المفرغة وذلك من خلال خريطة طريق واضحة، ولكنها ما زالت غائبة حتى اليوم.”
وأوضح السبلاني أنّ “التجربة المقارنة والسياق اللبناني يؤكدان الحاجة إلى إيجاد مسار أكثر شفافية وتشاركية ممّا كان عليه الأمر خلال العقود الثلاثة الماضية، وذلك من أجل الوصول إلى إصلاح النظام القضائي بما يتوافق مع المعايير الدولية، بما فيها تلك الواردة في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. ففي كل بلد هناك قضاة مميزون، لكنّ إصلاح القضاء يجب ألّا يُترك للقضاة وحدهم، فلديهم ما يكفيهم من ضغوط ومسؤوليات. ومن جهة أخرى، ينبغي ألّا يوضع القضاة تحت ثقل الشعار القائل إن استقلال القاضي الداخلي هو وحده الضمانة، فعن أي استقلال داخلي نتحدث في غياب الضمانات القانونية والمادّية والأمنية؟ لذا فإنّ إقرار قانون عصري شامل للقضاء أمر ضروري ومفيد، لكن لا بد من الحذر من خلق معادلة صفرية تنتهي إلى تأبيد الحوار حول الإصلاح المبتغى. من أجل ذلك لا بد من خريطة طريق إستراتيجية تسعى لتحقيق مكاسب أخرى على طريق الإصلاح المرغوب”.
ثم تحدّث في الجلسة الثانية سامر غمرون الأستاذ المشارك في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف والباحث في المفكرة القانونية، فأكّد “أننا نواجه على المدى القريب مشكلة مادّية كبيرة في القضاء ويجب أن تعالَج، فالمحاكم آخذة بالانهيار والقضاة يعيشون وضعًا صعبًا، وهذا يهدّد نوعية العدالة في السنوات القادمة، كما أنّ هناك تعطيلًا لكل المحاكم في البلد حاليًّا، وتعطيلًا لمحاكمة كلّ صاحب نفوذ ومحاسبته، بفعل قضايا الردّ ومخاصمة الدولة، وهذا ما يمنع التحقيق في الكثير من الجرائم الكبرى في البلد.”
وفي السياق نفسه، سلّط غمرون الضوء على نقاط ثلاث في مداخلته:
- كيفية وضع اليد السياسية على القضاء في السنوات الثلاثين الأخيرة عبر دفع القضاة للتقرّب من السياسيين، من أجل الحصول على مراكز معيّنة .
- معركة النيابات العامّة التي يجب أن تُخاض من أجل تحريرها من سطوة النائب العام التمييزي ومن السطوة السياسية عبره،
- التركيز على ضمانات القضاة القانونية التي تتمثل بالمعايير الدولية لحماية استقلاليتهم “.
وتحدثت المديرة العامة السابقة لوزارة العدل القاضية ميسم النويري في الجلسة الثالثة، حيث اعتبرت أنّ “الانتقاد والشكوى واللوم والعتب وإعطاء الحلول النظرية منذ أكثر من ثلاثين سنة، لم تؤدِّ إلى نتيجة. لذا يجب النزول إلى أرض الواقع والمتابعة، فمثلًا إن لم يتابع قاضٍ من القضاة ملفًا معيّنًا، يجب على المجتمع المدني ووسائل الإعلام والنقابات متابعة الأمر والحديث عنه بشكل يومي. وما التركيز على المجتمع المدني ووسائل الإعلام والنقابات، إلا لأن القضاة مقيَّدون، وكل وزير ونائب له مرجعيّته السياسية، وبالتالي فإن المجتمع المدني ووسائل الإعلام والنقابات… هم الذين سيثبّتون العدالة وأركان الدولة، فالدولة ليست مسؤولية الجهات الرسمية فحسب، بل هي مسؤولية كل اللبنانيين”.
Share via:
