الأب جوزف أبي عون –
يُحكى عن رجلٍ بهلواني، الذي يمضي حياته متنّقلّاً من بلدة إلى بلدة زارعاً الفرح في قلوب الصغار والكبار برقصاته وألعابه البهلوانيّة، أنٌ حدثَ مرّةًّ بلغَ بتنّقلّاته إلى جوار دير كبير للرهبان البنديكتان وكان الوقت قد صار ليلاً.
فلم يكن أمامه سوى الدخول إلى الدير وطلب البقاء تلك الليلة فيه. فأحسّ بإحراجٍ كبير في داخله لاسيّما وأنّه قد مرّ زمنٌ كان بعيداُ فيه عن الكنيسة والصلاة ويجد نقسه الآن فجأة في وسط الدير والرهبان. فاستقبلوه بكلّ ترحاب ومحبّة في الغرف المخصّصة للضيوف.
بقد وقتٍ قليل، بدأ يسمع أصوات صلوات الرهبان وترانيمهم في الكنيسة. وما أجملها صلوات وترانيم على اللحن الغريغوري اللاتيني الأصيل. فشعر بانجذاب إليها وكأنّ حنين الماضي البعيد الكامن في أعماقه راح يتفاعل فيه.
تركَ غرفته وراح يتلمّس درب كنيسة الدير متأرجحاً بين الخجل والارتياب. دخلَها والاندهاش على وجهه أمام هذا المشهد الجميل: كنيسة رائعة يحلّيها جوق الرهبان بأصواتهم المتخسّعة بالصلاةً والترانيمَ. لعلّها المرّة الوحيدة في حياته، يجد نفسه هكذا في ليلة غريبة لا تشبه لياليه البهلوانيّة. جلس في مؤخّرة الكنيسة. شعر بعدم الاستحقاق بالتقدّم. الرهبان يصلّون، أمّا هو فلا يعرف كيف يصلّي. احتار في أمره.
نسي كيف يصلّي. شعر بغربة ثقيلة. هم يصلّون وهو يتفرّج عليهم. حتّى لم يتمكّن من استيعاب ألحانهم وكلماتهم. اعتاد هو على غير موسيقى وغير كلمات. بدأ يشعر بشوق نحو الصلاة، وصار هذا الشوق يزداد فيه. لكن، كيف؟ وهو ذاك البهلوانيّ المسكين الذي لم يتعلّم في حياته سوى هذه المهنة التي تفرّح قلوب الناس.
بعد وقت، انتهى الرهبان من الصلاة، ورجع كلّ راهب منهم، بالصمت والخشوع، إلى غرفته.
هو الآن وحيداً في هذا الليل العابق بالبخور والقداسة. أراد أنْ يصلّي. أراد أن يصلّي للربّ على طريقته، كما صلّى الرهبان على طريقتهم. كان كليّ الثقة بأنّ الربّ سيقبل صلاته كما قبِل صلاة الرهبان.
توجهّ بسرعة إلى غرفته وأتى بكيس أغراض ألعابه البهلوانيّة. اقترب من المذبح وراح يقدّم للربّ ما يعرفه وما يملكه وما يقوم به أمام كلّ الناس: راح يرقص البهلوانيّ ويغنيّ ويضحك وينقّل، بشطارة بالغة، الألعاب بيديه. كان صادقاً بما قام به. أمضى ساعة من الوقت على قدر ساعة صلاة الرهبان.
لم يهدأ ولم يخجل. صلّى ب”لَعبه هذا” إلى يسوع. صلّى بأجمل ما عنده. أراد، كما يفرّح الناس، أن يفرّح قلب الربّ. كان يعرف بأنّ يسوع، كما يحبّ الرهبان في صلاتهم ويقبلها، يحبّه هو أيضاً في صلاته هذه ويقبلها. كان بريئاً، نقيّاً، طيّبّاً. لم يفكّر أبداً بأنّه يقوم بتقليل شأن الكنيسة والمذبح والقربان. يسوع، الذي عاش بين الناس، وشابهم بكلّ شيء ما عدا الخطيئة، سيقبل هذا الإنسان البهلوانيّ الطيّب وسيفرح به. رأوه الرهبان وفرحوا به…
لم يوجهّوا إليه سهام النقد الكاسر ورِماح الكلام الجارح. أحبّوه على عفويّته وصدقه وبراءته. لمْ يشيطنوه أو يتهمونه بتدنيس المذبح والقربان. الكلمة الجارحة والقاسية هي أقسئ وأعتى من رقصة عفوية بريئة أمام يسوع في القربان المقدّس.
إنّ الساكن في بيت القربان، هو نفسه الذي جال في بلداتنا وقرانا وأحيائنا وشوارعنا ومجامعنا…ودعانا إليه.
أعطنا يا ربّ نظرات تشبه نظراتكَ الملئ بالحب والحنان. إنزع من قلوبنا القساوة وردّات الفعل القاتلة. أنتَ منّا ونحن منكَ، وتفرح بالأشياء البريئة النقيّة. وأغفر لنا خطايانا، أنتَ الرحوم الحنون.
شكراً لكَ يا ربّ…
بالحب فقط نستطيع أن نغيّر ونحسّن. وكلّ شيء، مهما كان، أذا كان فاقد الحب، لا يبلغ مرتجاه.
Share via:
0
Shares