نظام مارديني-
…ففي بداية الألفية الثالثة تأكدت معجزة القرابة العضوية بين الماء والنار، فالحرائق الإقليمية والدولية المشتعلة لن تندلع اليوم على تخوم حدائق النفط والغاز فقط، بل ستمضي مندفعة على امتداد شرايين المدنيات الأولى.
اكتسبت أزمة المياه بين تركيا والمشرق العربي أهمية سياسية على أبعد حدّ مع إنجاز «سدّ أتاتورك» في العام 1992 الذي يعتبر جزءاً من مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي تم فيه تغيير كلّ أشكال توزيع المياه في المنطقة، حيث يشكل نهر الفرات الذي ينبع في الجبال الشرقية من تركيا ويجري عبر كل من سوريا والعراق، قبل أن يصب في الخليج العربي الجزء الأهم في هذا المشروع.
ففي بداية الألفية الثالثة تأكدت معجزة القرابة العضوية بين الماء والنار، فالحرائق الإقليمية والدولية المشتعلة لن تندلع اليوم على تخوم حدائق النفط والغاز فقط، بل ستمضي مندفعة على امتداد شرايين المدنيات الأولى.
ففي أجواء الصراعات على الوجود، أصبحت الأنهار والبحيرات أخطر خزان استراتيجي لإنتاج القلق، والحذر… وربما لإطلاق الحروب.
ما يزيد مثل هذا الاحتمال طبيعة التكتلات والأحلاف التي ترسم مصالحها على قياس طموحاتها الإمبراطورية، ملوحة بالحروب الطامحة للاستيلاء على أكبر قدر من مصادر الثروة… والماء أهمها.
في الشرق الأوسط، وتحديدًا في المشرق العربي، تصبح اللوحة أكثر وضوحاً. فالأتراك يضعون يدهم على عنق الفرات وناصية دجلة، ويشدون الخناق شيئًا فشيئًا، بينما «الإسرائيليون» في الجنوب ينقضون بأنيابهم الاستراتيجية على نهر الأردن، وعلى الليطاني وطبريا، وأخيرًا ها هم يقفزون باتجاه الوزاني… ولعل الكيان الصهيوني كان السباق لوضع يده على منبع نهر اليرموك عشية اسقاط الدولة السورية وتغيير النظام فيها، وذلك بهدف جعل بلاد الشام فقيرة بالمياه.
إذًا، سدود في شمال المشرق العربي لقطع نسغ الحياة عن بغداد والجزيرة السورية. وأخرى في الجنوب لمصادرة ثروة لبنان وسورية والأردن بغية إرواء عطش ملايين المهاجرين اليهود الذين جاؤوا من مختلف الجحور اللاهوتية من شرق هذا العالم وغربه بحجة جنة يهوه الموعودة.
في الشمال والجنوب لم تعد الصراعات على تسوية حدود جغرافية هنا وهناك وليست فقط على طريق تجاري أو ممر إجباري… ولا على ثروة استراتيجية.
عندما تدخل المياه في استراتيجية الحرب، يصبح أكيداً أن هذا الصراع ليس بدوافع الشعارات والسياسات، بل بدوافع إلغاء وجود لمصلحة وجود آخر. ويدرك هؤلاء حقيقة العلاقة بين الأرض والإنسان، فعندما تموت الأرض عطشاً يذوي الإنسان عيشاً وحضارة وقوة… ويفقد مبررات إيجابية الفعل والانفعال في بيئته وتموت الحضارة، إذ لا حضارة من دون تفاعل بين الإنسان والبيئة.
وعندما يحتضر التفاعل بسبب جذب الأرض، أو جذب الإنسان، لا يبقى وطن.
الأتراك و«الإسرائيليون» سيديرون اليوم المراحل الجديدة من حرب المستقبل، ولا ريب في أنها مرحلة ستضج بالمزيد من شعارات السلام والحرية والديمقراطية والعدالة الدولية، خصوصاً أن عدوي العرب، تركيا و «إسرائيل» هما اليوم أكثر الجهات التي تتذرع بالإنسانية للقضاء على الإنسان.
***
تشكل منطقة المشرق العربي بؤرة النزاع حول نهري الدجلة والفرات باعتبارهما من أهم الثروات الطبيعية في المنطقة، وازدادت حدّة الأزمة مع التطورات الراهنة التي تشهدها المنطقة، وازدياد الأطماع «الإسرائيلية» للاستيلاء على الثروات، لذلك تشهد المنطقة توترات بين تركيا وسوريا والعراق حول استغلال مياه النهرين في ظل أزمة المياه، وعدم اعتراف تركيا بالصفة الدولية للنهرين وصنّفتهما كنهرين عابرين للحدود. وقيامها بعدّة مشاريع مائية متخطية القواعد القانونية المنظمة لاستغلال المياه، ولكن: كيف سينعكس الصراع على مياه الأنهار الدولية على العلاقات التركية السورية العراقية؟
وفي إطار حـربها غير الأخلاقية ضد دمشق وبغداد، تتبع أنقرة استراتيجية التـدمير الممنهج للأمـن المائي لدى الشعبين، حيث أدت الممـارسات التركية، خلال الأعوام الماضية، إلى جفاف العديد من الأنهار والينابيع في البلدين.
بعد ذلك، انتهجت أنقرة سياسة مائية هدفت من خلالها إلى منح نفسها أهمية جيوسياسية في المنطقة، وهدفت تركيا إلى ربط الشرق الأوسط بمصادر الطاقة والربط الكهربائي لتنمية مكانتها الاقتصادية في الشرق الأوسط، وسعت تركيا من خلال مشاريعها المائية إلى العمل على احتواء الأزمة الكردية لتتجاوز التهديد الأمني الذي كان ينتابها، وتحفيز الأتراك بتعمير منطقة شرق الأناضول محدثة بذلك تغيير ديمغرافي في تلك المنطقة، مع غياب اتفاق يقسّم الحصص المائية العادلة بين الدول الثلاث.
***
استمرت أنقرة بانتهاج سياسة عدائية كبيرة تجاه سوريا، وحاولت الإيحاء للدولة العراقية أنها ستحصل على ما يكفيها من تدفق نهري دجلة والفرات، ولكن الوعود لم تنفذ، وبقيت الدولتين السورية العراقية تعانيان من قلة المياه، وبدا أن هناك انخفاضًاً بنسبة 40٪ في المياه المتدفقة إلى سوريا والعراق، ووفقًا لبعض الدراسات المستقلة التي أجريت في وادي دجلة، من الواضح أيضًاً أنه إذا تم تنفيذ جميع مشاريع الري، فإن النقص سيتجاوز 40٪. بعدها قطعت أنقرة تدفق المياه عن سوريا ولم تقطعها عن العراق، مدعية أنها ستأخذ مطالب العراق بعين الاعتبار. لكن في اجتماعات سرية أجبر العراق على الرضوخ لمطالب تركية مقابل المياه.
في الأثناء طمأنت دمشق في شتاء 2024 الجانب العراقي بأنه وعلى الرغم من قلة المياه المرسلة من دولة المنبع التي وصلت إلى أقل من 300 متر مكعب بالثانية الواحدة فإن سوريا لن تالو جهدًا في أن تقدم للعراق حصته من المياه المتدفقة. علما أن حصة سوريا والعراق تصل إلى 500 متر مكعب بالثانية.
إن قطع مياه الفرات ودجلة من قبل تركيا، يشكل خرقًا للمعاهدات المبرمة، ويؤكد بعدها عن المبادئ الأخلاقية وتشكل خطرًا على سكان مئات القرى في سوريا والعراق على ضفاف نهر الفرات، حيث الأوضاع المأساوية نتيجة جفاف مجرى النهر الذي أثر في الزراعة، وتوليد الطاقة الكهربائية وتوفير مياه الشرب وتربية الأسماك.
على العموم ستبقى الأوضاع متوتِّرة جدًا بين تركيا وجارتيها، ذلك لأنَّ العراق وسوريا لا تزالان تشعران بالظلم، خصوصًا بعدما أكملت تركيا تخزين المياه في سد إليسو في (عام 2020) المقام على ضفاف نهر دجلة، وقد حذر خبراء عراقيين في ذلك الوقت من خطورته، حيث من المتوقع أن يؤثر سلبًا على حجم الأراضي الزراعية. ولكن نداءات الاستغاثة الرسمية العراقية جاءت متأخرة وبعد تقدير أخطار بناء السد والخسائر الناتجة عنه، التي أكدت تقارير دولية أنها تزيد على 10 مليارات دولار، ورجّحت نقص حصة العراق من مياه دجلة من 20.93 مليار متر مكعب سنوياً لتصل لنحو 9.7 مليار متر مكعب، بعد بدء تشغيل السد.
من المهم أن تنتهج كل من دمشق وبغداد وأنقرة سياسات تعاونية لضمان إنهاء الأزمة والحيلولة دون نشوب حروب مياه مستقبلًا، لأنّه ليس من مصلحة تركيا تجاهل مصالح دول المصبّ، ثم إنّه ليس في قدرة سورية والعراق تحقيق أي نتائج دون التفاوض ودون الدبلوماسية المائية.