الخوري نسيم قسطون:
في زمنٍ يبحث فيه البشر عن الصفقات الرابحة، حتى في علاقتهم مع الله، يأتي الإنجيل ليهزّ هذه المنطق من جذوره. فالمسيحيّة ليست عقدًا تجاريًّا نتفاوض فيه مع السماء، بل قصّة حبّ مجانيّ، بلا شروط، بلا مقايضة. “لقد أكلنا أمامك وشربنا، وعلّمت في ساحاتنا!” كم هي مأساويّة هذه العبارة حين تُقال بفخر، كأنّ حضورنا في الكنيسة أو صلواتنا هي خدمات نقدّمها لله ليُسجّلها لصالحنا! أين ذهب إله المحبّة الذي بذل ذاته من دون أن يطلب سوى قلوبنا؟
لقد حوّلنا الدين أحيانًا إلى سوقٍ نخشى أن نخسر فيه، فنسجّل كلّ عمل صالح كرصيدٍ في حسابنا الأخرويّ. ننسى أنّ الخلاص هبة، لا أجرًا. ننسى أنّنا أبناء، لا موظّفين. الله لا يحتاج إلى أعمالنا، بل إلى حبّنا. هو لا يطلب خدماتنا، بل إيماننا الحي الذي يتحوّل إلى محبّة للجائع، للعطشان، للسجين، للغريب. “مَن أراد أن يخلّص حياته يخسرها، ومَن يخسرها من أجلي يجدها” – هذه هي المعادلة الإنجيليّة التي تقلب منطق العالم رأسًا على عقب.
أسبوع الآلام هو تذكيرٌ صارخ بأنّ الله لم يأتِ ليُرضي توقّعاتنا، بل ليُخلّصنا من أنانيّتنا. لقد رفضه اليهود لأنّهم أرادوا مسيحًا منتقمًا، لا مُخلصًا متألّمًا. ونحن؟ كم مرّةً نرفض الله لأنّه لا يتوافق مع صورتنا عنه؟ نريده قاضيًا عادلًا حين نطلب الانتقام، لكنّنا نريده أبًا حنونًا حين نرتكب الأخطاء. نطلب منه أن يكون “على ذوقنا”، لكنّ الدعوة الحقيقيّة هي أن نكون على صورته، لا العكس.
الباب الضيّق ليس عقابًا، بل اختيارًا. اختيار المحبّة على المصلحة، الاختيار المجانيّ على التجارة، الاختيار الأصعب الذي يقود إلى الحياة. كثيرون يبحثون عن أبوابٍ واسعة: المال، المجد، السلطة، المتعة… لكنّها كلّها تؤدّي إلى زوال. “ماذا يُنتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟” المسيح لم يغلب الموت بالثروة أو القوّة، بل بالمحبّة التي بذلها حتى النهاية. وهذه هي المملكة الوحيدة التي لا تُهزَم.
في رحلة الإيمان، نواجه دائمًا لحظات شكّ وانفصال. حتى التلاميذ، الذين عاشوا مع المسيح ثلاث سنوات، هربوا عند أوّل خطر. لكنّ المسيح لم يلعن ضعفهم، بل فهمه. هناك فرقٌ بين مَن يبتعد خوفًا، ومَن يخون عن قصد. في حياتنا أيضًا، قد يبتعد عنّا أحبّاؤنا لأسبابٍ مشروعة، وهذا جزءٌ من مسيرة النضج. لكنّ المحبّة الحقيقيّة تبقى، حتّى في الغياب. فكما وقف يوحنّا عند الصليب، نحن مدعوّون أن نكون أمناء، حتّى عندما يكون الحبّ مؤلمًا.
اليوم، يدعونا الله إلى أن نختار: إمّا أن نعيش في مملكة المصلحة الزائلة، حيث كلّ شيءٍ يُقاس بالمنفعة، وإمّا أن ندخل في مملكة المحبّة، حيث العطاء بلا حساب. ليس المطلوب منّا أن نكون أبطالًا، بل أن نكون صادقين. لا أن ننقل الجبال، بل أن نلمس القلوب. لا أن نُحيي الموتى، بل أن نُحيي المحبّة في أنفسنا أولًا.
فهل نجرؤ على عبور الباب الضيّق؟ هل نجرؤ على أن نحبّ كما أحبّ هو – بلا شروط، بلا مقايضة، بلا خوف من الخسارة؟ لأنّ في النهاية، “مَن يحبّ لا يخسر أبدًا”.
